والمعنى: أي يلبس (?) النهار ظلمة الليل، فيصير الجو مظلمًا بعد أن كان مضيئًا، فكأنه وضع عليه لباسًا من الظلمة، وكذلك يلبس الليل ضياء النهار، فيصير الجو مضيئًا بعد أن كان مظلمًا، وكل هذا لتتم المنافع للناس بالسكون والاستقرار، أو بالبحث على المعايش والأرزاق كما قال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} وقال أيضًا: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}.
قال البيضاوي: يلبسه مكانه، فيصير الجو مظلمًا بعدما كان مضيئًا يعني: أن الإغشاء: إلباس الشيء الشيء، ولما كان إلباس الليل النهار وتغطية النهار به غير معقول؛ لأنهما متضادان لا يجتمعان، واللباس لابدّ أن يجتمع مع اللابس .. قدر المضاف وهو مكانه، ومكان النهار هو الجو، وهو يلبس ظلمة الليل، ففيه استعارة تبعية كما سيأتي في مبحث البلاغة.
وبعد أن ذكر هذه الأدلة التي تشاهد في رأي العين في كل صباح ومساء، وفي كل حين ووقت .. ذكر أن هذه الأدلة لا يلتفت إليها ولا يعتبر بها إلا من له فكر يتدبر به، وعقل يهتدي به إلى وجه الصواب، وينتقل من النظر في الأسباب إلى مسبباتها، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: إن فيما ذكر من عجائب خلق الله تعالى، وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء العظيمة {لَآيَاتٍ}؛ أي: لدلائل وحججًا {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: لقومٍ يتفكرون فيها ويتأملون، ويعتبرون بها، فيعلموا أن الخالق لذلك هو القاهر فوق العباد، وهو ذو الإرادة المطلقة والقدرة الشاملة، فلا يعجزه إحياء من هلك من خلقه، ولا إعادة من فني منهم، ولا ابتداع ما شاء ابتداعه، ومن ثم لا تجوز العبادة إلا له تعالى، ولا التذلل والخضوع إلا لسلطانه، ولا ينبغي أن تكون لصنم أو وثن أو حجر أو شجر أو ملك أو نبي أو غير أولئك ممن سلب النفع والضرّ، بل لا يستطيع صرف الأذى عن نفسه {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ