أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ}؛ أي: أعرض عنهم {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}؛ أي: يا حزني عليه، والأسف أشد الحزن على ما فات، ومنه قول كثير:
فَيَا أَسَفًا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ ... وَلِلنَّفْس لَما سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف وانضمام فراقه لأخيه بنيامين، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيرًا عند ملك مصر، فتضاعفت أحزانه، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير.
{فَهُوَ كَظِيمٌ}؛ أي: مملوء غيظًا على أولاده ممسك له في قلبه لا يبثه لأحد، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: الكظيم بمعنى الكاظم؛ أي: المشتمل على حزنه الممسك له، ومنه قوله:
فَإِنْ أكُ كَاظِمًا لِمُصَابِ نَاسٍ ... فَإنِّيْ اليَوْمَ مُنْطَلِقٌ لِسَانِي
وقال الزجاج: معنى كظيم محزون. وعن ابن عباس أنه قال: معناه مغموم مكروب. وفي "المصباح": كظمت الغيظ كظمًا - من باب ضرب - وكظومًا أمكست على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ. انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} وفي قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ}؛ لأن المراد منه أصحاب الإبل ونحوها، والعلاقة فيه المجاورة كما في "السمين".
ومنها: التعريض في قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} لما فيه من التعريض إلى