وفي ذلك إيماءٌ إلى شيئين:
1 - أنَّ الحرب ليست محبوبة عند الله، ولا عند رسوله، وإنما هي ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان، وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.
2 - أنَّ استعمال القوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من وراءهم .. أمر لا بد منه للعظة والاعتبار، حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم، ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما في الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.
58 - وبعد أن ذكر حكم ناقض العهد حين سنوح الفرصة .. قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ}؛ أي: وإن توقعت يا محمَّد {مِنْ قَوْمٍ} معاهدين {خِيَانَةً} وغشًّا ونكثًا للعهد، بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تدل عليها {انْبِذْ إِلَيْهِمْ}، أي: فاطرح وارم إليهم عهدهم {عَلَى سَوَاءٍ} على جهرٍ، لا على سرٍّ؛ أي: فاقطع (?) عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها، بأن تنبذ إليهم عهدهم، وتنذرهم بأنك غير مقيد به، ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح، لا خداع فيه ولا استخفاء. والحكمة في هذا: أنَّ الإِسلام لا يبيح الخيانة مطلقًا.
والمعنى (?): أعلمهم - قبل حربك إياهم - أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً، فلا يتوهَّمون أنك نقضت العهد أولًا بنصب الحرب معهم؛ أي: لا تحاربهم قبل إعلامهم بنقض العهد. {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}؛ أي: الناقضين للعهود؛ أي: يعاقبهم، وهذه الجملة تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف. قال ابن عطية: والذي (?) يظهر من ألفاظ القرآن أنَّ أمر بني قريظة انتهى عند قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}، ثم ابتدأ تبارك