وشهد لهم بذلك أعداؤهم، حتى قال مؤرخو الإفرنج: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. وقرأ زيد بن ثابت: {ذَرِّية} - بفتح الذال - وكذا في آل عمران، وأبان بن عثمان: {ذَرِية} - بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة - وعنه {ذَرْية} على وزن ضَرْبة.
134 - وبعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة، فقال: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ} ـه من جزاء الآخرة بعد البعث {لَآتٍ} لا محالة ولا مرد له، فإن الله لا يخلف الميعاد {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} الله بهرب ولا منع مما يريد، ولا فائتين عما هو نازل بكم وواقع عليكم، فهو القادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم، وهذا دليل قد ذكره الله تعالى في كتابه مرات كثيرة، وقد أنار العلم في هذا العصر أمر البعث وقربه إلى العقول، فأثبت أن هلاك الأشياء وفناءها ما هو إلا تحلل موادها وتفرقها، وأنه يمكن تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء.
135 - ثم تمم الوعيد والتهديد بأمره لرسوله أن ينذرهم بقوله: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين {يا قَوْمِ اعْمَلُوا} واثبتوا {عَلى مَكانَتِكُمْ} وطريقتكم التي أنتم عليها من الشرك والعداوة، فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم {إِنِّي عامِلٌ} وثابت على مكانتي وطريقتي التي رباني ربي عليها وهداني إليها، وأقامني عليها من الإسلام والمصابرة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بعد حين {مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ}؛ أي: من تكون له العاقبة المحمودة التي يحمد عليها صاحبها في هذه الدار؛ أي: من له النصر في دار الدنيا، ومن له وراثة الأرض ومن له الدرجات العلى في الآخرة.
وفي «الفتوحات» العاقبة المحمودة: هي الاستراحة واطمئنان الخاطر، وهذه حاصلة في الدار الآخرة التي هي الجنة، فحصلت المغايرة بين الظرف والمظروف، انتهت. ويحتمل أن يراد بعاقبة الدار مآل الدنيا بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب. وفي قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} ترديد بينه عليه السلام وبينهم، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم، وإن عاقبة الدار الحسنى هي له صلى الله عليه وسلم. قرأ أبو بكر: {على مكاناتكم} - على الجمع حيث وقع - فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع، ومن أفرد فعلى الجنس.