منهم أنهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى} فهذا ظاهر في أنه كان مرسلا إليهم فنؤمن بذلك، ونفوض الأمر فيما عداه إلى الله، ثم بين سبحانه وظيفة الرسل الذين أرسلهم الله إلى الفريقين بقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}؛ أي: يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لكفار الجن والإنس على سبيل التقريع والتوبيخ والتقرير يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي؛ أي: يخبرونكم بما أوحي إليهم من آياتي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي المبينة لأصول الإيمان، وأحاسن الآداب والفضائل، والمفصلة لأحكام التشريع التي من ثمراتها صلاح الأعمال والنجاة من الأهوال {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا}؛ أي: ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا؛ وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أنواع العقوبات الهائلة، ثم أجابوا عن سؤال فهم من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قالوا حين ذلك التوبيخ الشديد؟ فقيل: {قالُوا} أي: قال كفار الجن والإنس {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا}؛ أي: شهدنا واعترفنا وأقررنا بإتيان الرسل إيانا، وبإنذارهم لنا، وبمقابلتنا لهم بالكفر والتكذيب، وفي هذا الجواب اعتراف صريح بكفرهم وإقرار بأن الرسل قد أتوهم وبلغوهم دعوتهم إما مشافهة أو نقلا عمن سمعوا منهم.
وهذا موطن من مواطن يوم القيامة، وفي موطن آخر لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وفي موطن ثالث يكذبون على أنفسهم بما ينكرون من كفرهم، وأنهم قدموا شيئا من السيئات والخطايا، ونحو الآية: {قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}. وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا}؛ أي: غرتهم وخدعتهم عن الآخرة زينة الحياة الدنيا ومتاعها من الشهوات والأموال والأولاد وحب السلطان على الناس وعظيم الجاه، فكفروا بالرسل عنادا وكبرا، وقلدهم في ذلك أتباعهم، واغتر كل منهم بما يغتر به من التعاون مع الآخر.
وأما غرور غيرهم ممن جاء بعدهم بالدنيا، فلما غلب عليهم من الإسراف في الشهوات المحرمة والجاه الباطل، حتى لقد أصبحت الحظوة بين الناس لذوي المال والنسب مهما اجترحوا من الموبقات، وأبسلوا من المكارم والخيرات.