للمؤمنين، كالكبر والعتو، والبغي وغلبة الحياة المادية، والأثرة والقسوة، وضعف عاطفة الحنان والرحمة، والعصبية الجنسية، والحمية القوية، ولكن مشركي العرب - على جاهليتهم - كانوا أرق من الحهود قلوبًا، وأعظم سخاءً وإيثارًا، وأكثر حرية في الفكر واستقلالًا في الرأي. وقدَّم سبحانه ذكر اليهود؛ للإشارة إلى تفوقهم على العرب فيما وصفوا به فضلًا عما امتازوا به من قتل بعض الأنبياء، وإيذاء بعض آخر، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل، ولم يكن ميلهم مع المسلمين في البلاد المقدسة والشام والأندلس قبل هذه الواقعة العصرية إلا ميلًا وراء مصلحتهم الخاصة؛ إذ هم تفيؤوا ظلال عدلهم، واستراحوا به من اضطهاد النصارى في تلك البلاد. و {لتَجِدَنَّ}؛ أي: وعزتي وجلالي لتجدن يا محمد {أَقْرَبَهُمْ}؛ أي: أقرب الناس {مَوَدَّةً}؛ أي: محبة وميلًا {لِلَّذِينَ آمَنُوا} بك وصدقوك {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}؛ أي: أنصار دين الله، وموادون لأهل الحق، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى من نصارى الحبشة أحسن المودة؛ بحماية المهاجرين الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإِسلام من مكة إلى الحبشة خوفًا عليهم من مشركيها، الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء ليفتنوهم عن دينهم.

ولما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه إلى الملوك ورؤساء الشعوب .. كان النصارى منهم أحسنهم ردًّا، فهرقل ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإِسلام، فلم يستطع لجمودهم على التقليد، فاكتفى بالرد الحسن. والمقوقس عظيم القبط في مصر كان أحسن منه ردًّا - وإن لم يكن أكثر منه ميلًا إلى الإِسلام - وأرسل للنبي - صلى الله عليه وسلم - هدية حسنة، ثم لما فتحت مصر والشام، وعرف أهلهما ما للإسلام من مزايا .. هرعوا إلى الدخول في الدين أفواجًا، وكان القبط أسرع إليه قبولًا.

والخلاصة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة النصارى وقربهم من الإِسلام بقدر ما رأوا من عداوة اليهود والمشركين، وأن من توقف من ملوكهم عن الإِسلام، فما كان توقفه إلا ضنًّا بملكه، وأن النجاشي - أصحمة ملك الحبشة - قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا, ولكن الإِسلام لم ينتشر في الحبشة بعد موته، ولم يهتم المسلمون بإقامة دينهم في تلك البلاد كما فعلوا في مصر والشام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015