بالوحي، وهو موافق لسنن الفطرة في تزكية النفوس وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس، ويترتب على العمل به أو تركه جزاء حدده الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولا يكون هذا الجزاء إلا لمن بلغته الدعوة على الوجه الصحيح.
{وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزًا} لا يغالب في أمر يريده، ومن عزته: أن لا يجيب المتعنت إلى مطلوبه {حَكِيمًا} في جميع أفعاله. وحكمته تقضي هذا الامتناع عن الإجابة؛ لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصروا على لجاجهم، كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا، ومن حكمته أيضًا: اختلاف الكتب والشرائع، فإن اختلافها في كيفية النزول وتغايرها في بعض الشرائع والأحكام إنما هو لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي يدور عليها ذلك التكليف، فكلَّفهم الله تعالى بما يليق بشأنهم وحالهم.
166 - وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} استدراك على ما عدم من السياق من إنكارهم نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وعدم شهادتهم بها، وهي واضحة عندهم في مرتبة المشهود به، لكنَّهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان, فسألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدًا له، فكأنَّه تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بها, لكن الله يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك، البالغ في فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان القرآن معجزًا. وإظهار المعجزة على يد من يدِّعي الرسالة .. شهادة له بكونه صادقًا في دعواه، فقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ}؛ أي: يشهد لك بالنبوة ويبينها بهذا القرآن الذي أنزله إليك. وقرأ السلمي والجرَّاح الحكمي: {لَكِنِ اللَّهُ} بالتشديد، ونصب الجلالة، وقرأ الحسن: {بِمَا أُنْزَلَ إِلَيْكَ} مبنيًّا للمفعول. ثم أكد هذه الشهادة، فقال: {أَنْزَلَهُ}؛ أي: أنزل الله تعالى هذا القرآن حالة كونه متلبسًا {بِعِلْمِهِ} سبحانه وتعالى، بأنه في غاية الحسن ونهاية الكمال؛ أي: فإنَّه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك، بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية