فيعودُ إليه، ثم يَلوم نفسه، ويندم، ويستغفر وهلم جرًّا، وهؤلاء أدْنَى طبقات التوابين، والنفس الباقية عندهم أرخَصُ من النفس الفانية، وهم مع ذلك محل للرجاء؛ لأن لهم زاجرًا من أنفسهم يذكرهم دائمًا بالرجوع إلى الله، عَقِب كل خطيئة، وهكذا تكون الحرب سجالًا بينَهم وبينَ أنفسهم، فإما أن تنتصر دواعي الخير .. فتصحَّ توبتُهم، وإما أن تنكسر أمامَ جند الشهوة .. فتحيطَ بهم خطيئتهم، ويكونوا من المصرينَ الهالكينَ.
{وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلِيمًا} بمن يطيع، ويعصي، ويتوب، ويعرض {حَكِيمًا} فيما دبره لخلقه بوضع الأشياء في مواضعها، فيقبلُ توبةَ من أناب إليه، لكنه لا يقبل إلا التوبةَ النصوح، دون حركات اللسان بالاستغفار، والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات، والأذكار مع الإصرار على الذنوب، والأوزار، ومن ثمَّ جَمَعَ الله في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل.
وقد فعلت الأمم السالفة مثلَ هذا، فاستثقلت التكاليفَ وفسقَت عن أمر ربها، واتبعَتْ هواهَا، وجعلَتْ حظَهَا من الدين مجموعَ حركات لسانيةٍ، وبدنِيَةِ لا تهذَب خُلقًا، ولا تصلح عملًا، ولا تمنع النفسَ من التمتع بشهواتها، وقد اتبع كثير من المسلمين سُنَنَ من قبلهم، وحَذَوا حَذْوَهم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع، فكانت الأغاني لهم دثارًا، والملاهي شعارًا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
18 - وبعد أن بينَ حالَ من تقبل توبتهمُ ذَكَرَ حالَ أضَدادِهم الذين لا تقبل توبتهم، فقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}؛ أي: وليس قبولُ التوبة واجبًا على الله للذين يفعلون، ويرتكبون الذنوبَ، والمعاصيَ، ويستمرون عليها إلى حضور علامات الموت وقُرْبه {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}؛ أي: فإذا حضر أحدهم أوائلُ الموت، وَرَأى أشراطَها، وأيس من الحياة التي يتمتع بها، {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} إلى طاعة الله، ولذلك لم يُقْبَل إيمانُ فرعون حين أدركَه الغرقُ؛ أي: إن سنةَ الله قد مضَتْ بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكينَ فيها إلى حضور الموت، وصدور ذلك القول منهم؛ لأن هؤلاء قد أحاطَتْ بهم خطيئَاتُهم، ولم تَدَعْ للأعمال الصالحة مكانًا في نفوسهم، فهم