من الكفر إلى الإيمان {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}؛ أي: من بعد ارتدادهم وكفرهم، وذلك أن الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك، فأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لي من توبة؟ ففعلوا، فأنزل الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية. فبعث إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبًا، وقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبته، وحسن إسلامه {وَأَصْلَحُوا}؛ أي: عملوا الأعمال الصالحة، وقيل: معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} لقبائحهم في الدنيا بالستر لها {رَحِيمٌ} في الآخرة بالعفو عنها، وقيل: غفور بإزالة العذاب، رحيم بإعطاء الثواب، وفي هذا الاستثناء وما بعده إشارة إلى أنَّ الكفار تنقسم ثلاثة أقسام:
قسم: تاب توبة صادقة فنفعته، وإليهم الإشارة بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}.
وقسم: تاب توبة فاسدة فلم تنفعه، وإليهم الإشارة بقوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}.
وقسم: لم يتب أصلًا ومات على الكفر، وإليهم الإشارة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}.
وخلاصة المعنى: أي إلا الذين تابوا من ذنوبهم، وتابوا إلى ربهم، وتركوا ذلك الكفر، الذي دنسوا به أنفسهم، نادمين على ما أصابوا منه، وأصلحوا نفوسهم بصالح الأعمال التي تغذي الإيمان، وتمحو من صفحة القلب ما كان قدْ ران عليها، من ذميم الأخلاق والصفات. وفي هذا إيماء إلى أنَّ التوبة التي لا أثر لها في العمل، لا يعتد بها في نظر الدين، إذ كثير من الناس يظهرون التوبة بالندم، والاستغفار، والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أنْ يعودوا إلى مثل ما كانوا قد اجترحوا من السيئات؛ لأنَّ التوبة لم يكن لها أثر في نفوسهم، ينبههم إذا غفلوا، ويهديهم إلى اتخاذ الطرق الموصلة لإصلاح شؤونهم، وتقويم المعوج من أمورهم، فإذا هم فعلوا ذلك .. نالهم من مغفرة ربهم ما يؤهلهم لدخول