أيضًا صدقنا بـ {ما أنزل علينا} من وحيه وتنزيله؛ وإنَّما قدم ذكر القرآن لأنَّه أشرف الكتب المنزلة؛ لأنَّ المعيار عليه؛ ولأنَّه لم يحرف ولم يبدل، وغيره حرف وبدل؛ أي: آمنا بالقرآن المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - أولًا، وعلى أمته بتبليغه إليهم.
وإنَّما عدي الإنزال هنا بعلى، وفي البقرة بإلى؛ لأنَّه يصح تعديته بكل منهما، فله جهة علو باعتبار إبتدائه، وجهة انتهاء باعبتار آخره، وهو باعتبار ابتدائه متعلق بالنبي، وباعتبار انتهائه متعلق بالمكلفين، ولمَّا خص الخطاب هنا بالنبي .. ناسب الاستعلاء، ولما عمم هناك جميع المؤمنين .. ناسبه الانتهاء {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ}؛ أي: وقيل يا محمد أيضًا: صدقنا بأنَّ الله أنزل على هؤلاء وحيًا لهداية أقوامهم، وأنَّه موافق في أصوله لما أنزل علينا؛ أي: آمنا بما أنزل على هؤلاء من الصحف والوحى، والأسباط هم بطون بني إسرائيل، المتشعبة من أولاد يعقوب، وإنَّما خص هؤلاء بالذكر؛ لأنَّ أهل الكتاب يعترفون بفضلهم وبنبوتهم، ولم يختلفوا فيهم {و} صدقنا بـ {ما أوتي} وأعطي {مُوسَى وَعِيسَى} من التوراة والإنجيل، وسائر المعجزات الظاهرة على أيديهم، كما ينبىء عنه إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب، وإنَّما أفرد هذين النبيين بالذكر؛ لأنَّ الكلام مع اليهود والنصارى، ثم جمع جميع الأنبياء فقال: {وَالنَّبِيُّونَ}؛ أي: وما أعطى النبيون {مِنْ رَبِّهِمْ} كداود، وسليمان، وأيوب، وغيرهم ممن لم يقص الله سبحانه علينا قصصهم {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} تعالى بالتصديق والتكذيب، فنصدق بالبعض، ونكفر بالبعض، كما فعل اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل.
فما مثل الأنبياء إلا كمثل الأمراء الأمناء الصادقين، يرسلهم السلطان على التعاقب للقيام بشؤون ولاية من ولاياته، وإصلاح أحوال أهلها، وعمل القوانين النافعة لحكمها، فقد يغير التالي بعض القوانين السابقة، بحسب ما يرى من تبدل طباع أهلها وعاداتهم، من شراسة إلى لين، ومن جهل إلى علم، ومن بداوة إلى مدينة وحضارة، وما المقصد من كل هذا إلا عمرانها، وبذل الوسع في سعادة أهلها، وإيصال الخير إليهم.