فوجدته قد أثَّر فيه صبره على العبادة الشديدة ليلًا ونهارًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إلى كم تصبر على مكابدة هذه الشدة؟ فما زاد على أن قال:

اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإِدْلَاجِ فِيْ السَّحَرِ ... وَفِيْ الرَّوَاحِ عَلَى الطَّاعَاتِ فِيْ الْبُكَرِ

إِنِّيْ رَأيْتُ وَفِيْ الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُوْدَةَ الأَثَرِ

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ شَيْءٍ يُؤَمِّلُهُ ... وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ

وفي هذا المعنى قال بعضهم:

يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... وَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيْهِ خُسْرَانُ

عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ

وقد رُكب في طباع الإنسان حب تفضيله على جنسه، فما أحد إلا ويحب أن يكون أعلى درجة من غيره، فإذا وقعت نكبة بإنسان أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي له أن يتجلد؛ لئلا يُرى بعين النقص، وليتجمل بالصبر، فإنه عدة الرجال الكَمَلة قال الشاعر:

وَتَجَلُّدِيْ لِلشَّامِتِيْنَ أُرِيْهِمُ ... أَنِّيْ لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ

وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... ألْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لَا تَنْفَعُ

فأهل الكمال يُظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء؛ لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء، وإنها على بعض النفوس لأشد من كل نائبة، لذا كان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية، وإليكم هذا المثل من الشريعة الغراء حين قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة المكرمة أصابتهم الحمى، وقد أراد المسلمون الطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والمشركون ينظرون إلى المسلمين، فخاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشمت بهم الأعداء حين رأوا ضعفهم عن السعي، فقال مخاطبًا للمسلمين: "رحم الله من أظهر من نفسه التجلد"، فرملوا، والرمَل شدة السعي، وقد زال ذلك السبب، وبقي الحكم في أعمال الحج ليُتذكَّر السبب فيفهم معناه ومغزاه لهذه الأسباب وغيرها من معاني الصبر وآثاره في حياة الفرد والجماعة، فقد أمر الله سبحانه بالصبر، وأمر بالتواصي بالصبر بين المؤمنين والمؤمنات، فقال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015