لا يزال يقاسي فنون الشدائد، مبدؤها ظلمة الرحم ومضيقهُ، ومنتهاها الموت وما بعده، فابن آدم يكابد من البلايا ما لا يكابده غيره، يعني: أن الكبد يتناول شدائد الدنيا من قطع سرته والتفافه بخرقة محبوس الأعضاء، ومكابدة الختان وأوجاعه، ومكابدة المعلم وصولته، والأستاذ وهيبته، ثم مكابدة شغل الزواج وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن، ثم الكبر والهرم من جملة مصائب كثيرة لا يمكن تعدادها، كالصداع ووجع الأضراس ورمد العين، وهمّ الدَّين ونحو ذلك، ويتناول أيضًا شدائد التكاليف، كالشكر على السراء والصبر على الضراء، والمكابدة في أداء العبادات، كالصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد، ثم بعد ذلك يقاسي شدة الموت وسؤال الملك وظلمة القبر، ثم البعث والعرض على الملك المحاسب إلى أن يصل إلى موضع الاستقرار إما في الجنة وإما في النار، كما قال سبحانه: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} فهو مكابد من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره إما في جنته، فتزول عنه المشقات، وإما في نار، فتتضاعف مشقاته وشدائده. كما في "البحر".
قال الإِمام (?): ليس في الدنيا لذة ألبتة، بل ذلك الذي يظن أنه لذة فهو خلاص من الألم، فاللذة عند الأكل هي الخلاص من ألم الجوع، وعند اللبس هي الخلاص من ألم الحر والبرد، فليس للإنسان إلا ألم وخلاص من ألم، وفيه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان يكابده من كفار قريش، قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له: أبو الأَشُد - بفتح الهمزة وضم الشين - وكان يأخذ الأديم العكاظي، ويجعله تحت رجليه، ويقول: من أزالني عنه .. فله كذا، فيجذبه
عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه نزل: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}؛ لقوته، ويكون معنى {فِي كَبَدٍ} على هذا: في شدة الخلق، وقيل معنى {فِي كَبَدٍ} أنه جريء القلب غليظ الكبد.
والخلاصة (?): أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد، مبتدأة بالمشقة منتهية بها، فهو لا يزال يقاسي من ضروبها ما يقاسي منذ نشأته في بطن أمه إلى أن يصير رجلًا، وكلما كبر ازدادات أتعابه وآلامه، فهو يحتاج إلى تحصيل