ومثله: المحاورة في البحث ومنه قولهم في الدعاء: نعوذ بالله من الحور بعد الكور؛ أي: الرجوع إلى النقصان بعد الوصول إلى الزيادة، أو إلى الوحشة بعد الإنس. وقال الراغب: الحور: التردد، إما بالذات وإما بالتفكر. وقيل: نعوذ بالله من الحور بعد الكور؛ أي: من التردد في الأمر بعد المضي فيه، أو من نقصان وتردد في الحال بعد الزيادة فيها. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده. وفي نظمها في سلك الخطاب مع أفضل البريّات تغليب، إذ القياس: تحاورها وتحاورك، تشريفًا لها من جهتين. والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبلها كما مرّ آنفًا. فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله، ومدافعته عليه السلام إياها بجواب منبىء عن التوقف وترقب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما .. من دواعي الإحابة. وفي "كشف الأسرار": ليس هذا تكرارًا؛ لأن الأول لما حكته عن زوجها، والثاني لما كان يجري بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الأول ماضٍ، والثاني مستقبل.
{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {سَمِيعٌ}؛ أي: مبالغ في السمع، يسمع كل مسموع. {بَصِيرٌ}؛ أي: مبالغ في الإبصار يبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة؛ أي: ومن قضيته أن يسمع تحاورهما، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع.
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له في مهمه أحد سوى ربه، وصدق في دعائه وشكواه .. كفاه الله في ذلك، ومن كان أضعف .. فالرب به ألطف. ولقد أجاد من قال:
يَا مَنْ يَرَى مَا فِيْ الضَّمِيْرِ وَيَسْمَعُ ... أنْتَ الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا ... يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ
مَا لَي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيْلَةٌ ... وَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ
حَاشَا لِجُوْدِكَ أَنْ تُقَنِّطَ عَاصِيًا ... الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ
وقد شاهدنا مشهدًا عجيبًا في إجابة الدعاء عند قراءة هذه الأبيات في الشدائد والنوائب، وفي المعارك.