وَلِذَلِكَ مَهَّدَ لِهَذِهِ الْغَايَةِ هُنَا بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (: 191) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (217) الْآيَةَ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ حَتَّى الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (256) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ وَمُصَنِّفُو التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا.
وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ كَانَ لَدَى بَنِي النَّضِيرِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ أَوْلَادٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ رَبَّوْهُمْ وَهَوَّدُوهُمْ، فَلَمَّا أُمِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْلَائِهِمْ لِتَوَاتُرِ إِيذَائِهِمْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْخُذُوا أَبْنَاءَهُمْ مِنْهُمْ وَيُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ)) .
وَمَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ لَا يَزَالُ يُوجَدُ حَتَّى فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُصَدِّقُ افْتِرَاءَ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ قَامَ بِالسَّيْفِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي كَانَ يَبْدَأُ الْمُشْرِكِينَ بِالْقِتَالِ.
(الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ الْقِتَالَ شُرِّعَ فِي الْإِسْلَامِ لِمَصْلَحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ:
" الْأُولَى " الدِّفَاعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْطَانِهِمْ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ وَمَنْ كَانَ آمَنَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ وَسَاعَدَهُمْ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَمَا زَالُوا يَبْدَءُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى عَجَزُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (190) .
" الثَّانِيَةُ " تَأْمِينُ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَمَنْعُ الِاضْطِهَادِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (193) هَذَا مَا نَزَلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
" الثَّالِثَةُ " مَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مِنْ تَأْمِينِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ وَسِيَادَتِهِ بِدَفْعِ الْمُخَالِفِينَ لَهُ لِلْجِزْيَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ مَا هُوَ أَثَرٌ لَازِمٌ لِلْإِسْلَامِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَاعِدَةِ الْأَوْلَى - وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ
الْغَايَاتُ وَلَوَازِمُ الْأُمُورِ بِطَلَبِهَا وَالسَّعْيِ لَهَا.
فَلَيْسَ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُسْلِمُونَ الدُّنْيَا وَمَعَايِشَهَا وَسِيَاسَتَهَا وَيَكُونُوا فُقَرَاءَ أَذِلَّاءَ تَابِعِينَ لِلْمُخَالِفِينَ لَهُمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ، وَلَا أَنْ يَكُونُوا كَالْأَنْعَامِ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا فِي شَهَوَاتِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ، وَكَالْوُحُوشِ الَّتِي يَفْتَرِسُ قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا. وَهَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَالْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ.