وَمُخْلَصُونَ عِنْدَهُ بِالْوِلَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِنَايَةِ
وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُبْعِدُهُمْ عَنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لَصَرْفِ اللهِ لِلسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَقُلْ: لِنَصْرِفَهُ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمَا، بَلْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمَا فَيُصْرَفُ عَنْهُمَا، وَهَمُّهُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ بِدَفْعِ صِيَالِهَا هَمٌّ بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ، وُجِدَ مُقْتَضِيهِ مُقْتَرِنًا بِالْمَانِعِ مِنْهُ وَهُوَ رُؤْيَتُهُ بُرْهَانَ رَبِّهِ فَلَمْ يُنَفِّذْهُ، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَمِّهَا وَهَمِّهِ أَنَّهَا أَرَادَتِ الِانْتِقَامَ مِنْهُ شِفَاءً لِغَيْظِهَا مِنْ خَيْبَتِهَا وَإِهَانَتِهِ لَهَا، فَلَمَّا رَأَى أَمَارَةَ وُثُوبِهَا عَلَيْهِ اسْتَعَدَّ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَمَّ بِهِ، فَكَانَ مَوْقِفُهُمَا مَوْقِفَ الْمُوَاثَبَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مِنْ بُرْهَانِ رَبِّهِ وَعِصْمَتِهِ مَالَمْ تَرَ هِيَ مِثْلَهُ، فَأَلْهَمَهُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ، فَلَجَأَ إِلَى الْفِرَارِ تَرْجِيحًا لِلْمَانِعِ عَلَى الْمُقْتَضِي، وَتَبِعَتْهُ هِيَ مُرَجِّحَةً لِلْمُقْتَضِي عَلَى الْمَانِعِ حَتَّى صَارَ جَزْمًا، وَاسْتَبَقَا بَابَ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ رَأْيَ الْجُمْهُورِ فِي الْهَمِّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
رَأْيُ الْجُمْهُورِ فِي هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا وَبَيَانُ بُطْلَانِهِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَالْمَخْدُوعُونَ بِالرِّوَايَاتِ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا هَمَّتْ بِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ وَلَا مَانِعٌ مِنْهَا، وَهَمَّ هُوَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَاقْتَرَفَهَا وَلَمْ يَسْتَحِ بَعْضُهُمْ أَنْ يَرْوِيَ أَخْبَارَ اهْتِيَاجِهِ وَتَهَوُّكِهِ فِيهِ وَوَصْفِ انْهِمَاكِهِ وَإِسْرَافِهِ فِي تَنْفِيذِهِ، وَتَهَتُّكَ الْمَرْأَةِ فِي تَبَذُّلِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ إِلَّا مِنْ أَوْقَحِ الْفُسَّاقِ الْمُسْرِفِينَ الْمُسْتَهْتَرِينَ، الَّذِينَ طَالَ عَلَيْهِمْ عَهْدُ اسْتِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَأُلْفَتِهَا حَتَّى خَلَعُوا الْعِذَارَ، وَتَجَرَّدُوا مِنْ جَلَابِيبِ الْحَيَاءِ، وَأَمْسَوْا عُرَاةً مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَحُلَلِ الْآدَابِ، كَأَهْلِ مَدَنِيَّةِ هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَوَاخِيرِ الْبِغَاءِ السِّرِّيَّةِ، وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ فِي حَمَّامَاتِ الْبَحْرِ الْجَهْرِيَّةِ، حَتَّى كَادُوا يُعِيدُونَ لِلْعَالَمِ فُجُورَ مَدِينَةِ (بُومْبَايَ) الرُّومَانِيَّةِ، الَّتِي خَسَفَ اللهُ بِهَا وَأَمْطَرَ عَلَيْهَا مِنْ بَرَاكِينِ النَّارِ مِثْلَمَا أَمْطَرَ عَلَى قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ مِنْ قَبْلِهَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي افْتَرَوْهُ فِي قِصَّةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، لَا يَقَعُ مِثْلُهُ مِمَّنِ ابْتُلِيَ بِالْمَعْصِيَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ سَلِيمِي الْفِطْرَةِ، وَلَا مِنْ سُذَّجِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ تَغْلِبْهُمْ سَوْرَةُ الشَّهْوَةِ الْجَامِحَةِ عَلَى حَيَائِهِمُ الْفِطْرِيِّ، وَإِيمَانِهِمْ وَحَيَائِهِمْ مِنْ نَظَرِ رَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ،
فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ عَصَمَهُ اللهُ وَوَصَفَهُ بِمَا وَصَفَ، وَشَهِدَ لَهُ بِمَا شَهِدَ، وَقَدْ بَلَغَ بِبَعْضِهِمْ (كَالسُّدِّيِّ) الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَالْوَقَاحَةُ وَقِلَّةُ الْأَدَبِ أَنْ يَزْعُمُوا أَنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَرَ بُرْهَانًا وَاحِدًا، بَلْ رَأَى عِدَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ رُؤْيَةِ وَالِدِهِ مُتَمَثِّلًا لَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ، وَتَكْرَارِ وَعْظِهِ لَهُ، وَمِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولِهِمْ عَلَيْهِ بِأَشَدِّ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ بِآيَاتٍ مِنْ سُوَرِهِ، فَلَمْ تَنْهَهُ مِنْ شَبَقِهِ، وَلَمْ تَنْهَهُ عَنْ غَيِّهِ، حَتَّى كَانَ أَنْ خَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَظَافِرِهِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ