الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَأَنَّ اللهَ وَعَدَ هَؤُلَاءِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُجْمَلٌ مُبْهَمٌ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ بِأَنْ تَقُولَ: الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ، وَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ قَارِئُوا هَذِهِ التَّفَاسِيرِ عَلَى قِلَّتِهِمْ غَيْرَ هَذَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلُّ مُؤَلِّفِيهَا فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ لَهَا فِي تَقْوَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ وَتَقْوَى الْأُمَّةِ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُشِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَعْنَاهَا الْعَامِّ، وَهُوَ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يُفْسِدُ الْعَقَائِدَ وَالْأَخْلَاقَ وَالرَّوَابِطَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَتَحَرِّي مَا يُصْلِحُهَا بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِ اللهِ - تَعَالَى - فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَبَقَاءِ دُوَلِهَا وَزَوَالِهَا، وَكَوْنُ هَذِهِ السُّنَنِ مُطَّرِدَةً فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ مِنْ مَنْزِلِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَا مُحَابَاةَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ الْمَرْجُوَّةُ لَهُمْ فِي السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لَعَلَّ أَجْمَعَهَا وَأَدَقَّهَا بِالْإِجْمَالِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا 8: 29 الْآيَةَ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ لَهُ مَا تَرْمِي فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ.
(نَهْيُ أُولِي الْأَحْلَامِ عَنِ الْفَسَادِ يَحْفَظُ الْأُمَّةَ مِنَ الْهَلَاكِ) :
(الشَّاهِدُ الثَّامِنُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ 116 جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ بَيَانِ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ؛ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَاتٌ وَأَحْزَابٌ أُولُوا بَقِيَّةٍ مِنَ الْأَحْلَامِ وَالْفَضَائِلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْحَقِّ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَا فَشَا فِيهِمْ، وَأَفْسَدَهُمْ وَإِذَنْ لَمَا هَلَكُوا، فَإِنَّ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنَ الْهَلَاكِ مَا دَامُوا يُطَاعُونَ فِيهَا بِحَسْبِ سُنَّةِ اللهِ، كَمَا أَنَّ الْأَطِبَّاءَ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنْ فُشُوِّ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ فِيهَا، مَا دَامَتِ الْجَمَاهِيرُ تُطِيعُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَرَضِ، وَمِنْ وَسَائِلِ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي بَعْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْجُمْهُورُ لِأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فَعَلَ الْفَسَادُ فِعْلَهُ فِيهِمْ، وَقَدْ فَهِمَ الْوُعَّاظُ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ خَلَفِنَا الْجَاهِلِ مَا كَانَ يَفْهَمُهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ بَرَكَةِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَحَفِظِ اللهِ الْأُمَمَ بِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَقِرَاءَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَضَرَبَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ فِي الزَّوَاجِرِ:
لَوْلَا أُنَاسٌ لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا ... وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا
لَدَكْدَكَتْ أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سِحْرًا ... فَإِنَّكُمْ قَوْمُ سَوْءٍ لَا تُطِيعُونَا