كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا - 17: 58 فَهُوَ مَسْطُورٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَا صِفَةَ كِتَابَتِهِ فِيهِ، وَلَهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ نَوْعٍ وَفِي جُمْلَتِهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ سُنَنٌ حَكِيمَةٌ يَقُومُ بِهَا قُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ 13: 8 وَهُوَ النِّظَامُ. فَلَهُ - تَعَالَى - كِتَابَانِ، فِي أَحَدِهِمَا نِظَامُ التَّكْوِينِ وَفِي الْآخَرِ بَيَانُ التَّكْلِيفِ، فَكِتَابُ التَّكْلِيفِ بَيَّنَ لَنَا مَا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِمَّا يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابَ الْعِلْمِ بِمَا فِي كِتَابِ التَّكْوِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابٌ مُبِينٌ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَحَدُ الْكِتَابَيْنِ بِالْآخَرِ.
(سُنَنُهُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) :
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: - اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - 7 فِيهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ أَطْوَارًا فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِنِظَامٍ مُحْكَمٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيْ فُجَائِيًّا بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مَعْنَاهَا التَّقْدِيرُ الْمُحْكَمُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةٍ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ التَّقْدِيرِيِّ، وَمِنْهُ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْمَرْئِيَّةَ لِلنَّاظِرِينَ، وَكُلَّ جِرْمٍ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ يُرَى فَوْقَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضٍ مِنَ الْأَرَضِينَ، فَكُلُّهَا قَائِمَةٌ بِسُنَنٍ دَقِيقَةِ النِّظَامِ، وَأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا فِيهَا مِنَ الْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْغَازِيَّةِ وَالسَّائِلَةِ وَالْجَامِدَةِ قَائِمٌ بِسُنَنٍ أَيْضًا، وَأَنَّ الْكَوْنَ فِي جُمْلَتِهِ قَائِمٌ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ فِي رَبْطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَحِفْظِ نِظَامِهِ أَنْ يَبْغِيَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَالَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْجَاذِبِيَّاتِ الْخَاصَّةِ.
(سُنَنُهُ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَخَلْقِ الْمُرَكَّبَاتِ أَزْوَاجًا) :
(الْخَامِسُ) قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْخَلْقِ: - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ - 7 فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ، وَقَدْ كَتَبْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصْلًا فِي هَذَا التَّكْوِينِ، ذَكَرْنَا مِنْ سُنَنِهِ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمُرَكَّبَاتِ، فَقَدْ قَالَ: - وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
- 21: 30 وَقَالَ: - وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ - 51: 49 وَقَالَ: - سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ - 36: 36 وَقَدْ وَصَلَ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِنَا إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ وَمَا قَامَتْ بِهِ، وَبِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَوَالِيدِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُونَ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ غَيْرُهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُ خَالِقِهَا - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.