تفسير المنار (صفحة 4490)

أَقَرَّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِدِينِهِمْ حَتَّى فِيمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِيهِ مَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُمْ - أَنْ يَسْمَحَ لِلْمُنَافِقِينَ بِأَنْ يُظْهِرُوا كَفْرَهُمْ (قُلْنَا) إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إِظْهَارِ كُفْرِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُمْ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ. تَنَاقُضٌ لَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ عَادِلٌ، وَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يُسْمَحُ لَهُ بِحُقُوقِ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ وَلَا يُطَالَبُ بِالْخُضُوعِ لِقَوَانِينِهَا، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى انْتِهَاكِهَا وَمُخَالَفَةِ أَحْكَامِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ حُرِّيَّةُ الدِّينِ الْمَعْقُولَةُ لِأَهْلِهِ فِي دَائِرَةِ مُحِيطِهِ بِأَلَّا يُحَاسِبَ أَحَدُهُمْ أَحَدًا عَلَى عَقِيدَتِهِ وَوِجْدَانِهِ فِيهِ، وَلَا اجْتِهَادِهِ فِي فَهْمِهِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، وَلَيْسَ مِنْهَا أَنْ يُخَالِفَ أُصُولَهُ الْقَطْعِيَّةَ الَّتِي لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا بِدُونِهَا وَيُعَدُّ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمًا، إِذًا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ حُكُومَتَهُ الْمُتَدَيِّنَةَ بِالسَّمَاحِ لَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَى دِينِهَا، كَمَا لَا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالسَّمَاحِ لَهُ بِالْخُرُوجِ عَلَى قَوَانِينِهَا، فَتَكُونُ حُرِّيَّتُهُ هُنَا مُتَعَارِضَةً مَعَ حُرِّيَّتِهَا هِيَ وَحُرِّيَّةِ أُمَّتِهَا.

(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ فَضَحَ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يُنَفِّذِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ بَقِيَ يُعَامِلُهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ

مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ (قُلْنَا) إِنَّ مَا بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ إِنَّمَا كَانَ وَصْفًا لِأُنَاسٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ بِأَشْخَاصِهِمْ، إِنْذَارًا وَزَجْرًا لَهُمْ لِيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَيَخْشَوْا سُوءَ مَآلِهِمْ، عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلتَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَابَ الْكَثِيرُونَ مِنْهُمْ، بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنْهُمْ، بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِهِمْ.

وَكَانَ الَّذِينَ عَرَّفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَشْخَاصَهُمْ - قَلِيلِينَ جِدًّا، كَالَّذِينِ هَمُّوا بِاغْتِيَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَشْرِيدِ رَاحِلَتِهِ فِي عَقَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ - مُنْصَرَفَهُمْ مِنْ تَبُوكَ - لِيَطْرَحُوهُ مِنْهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) (9: 74) وَلَمَّا اسْتَأْمَرَهُ أَصْحَابُهُ بِقَتْلِهِمْ قَالَ: ((أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ وَيَقُولُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ)) أَيْ فِي رِقَابِهِمْ بِقَتْلِهِمْ، وَهَذَا أَكْبَرُ مُنَفِّرٍ عَنِ الْإِيمَانِ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانَ يَسْتَحْسِنُ هَذَا الدِّينَ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ فِي أَحْكَامِهِ وَآدَابِهِ لِذَاتِهَا، قَبْلَ أَنْ تَقُومَ عِنْدَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى الْيَقِينِ بِكَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَيَدْخُلُونَ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لِأَكْثَرِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَفْضِيلِهِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِدَعْوَتِهِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ إِسْلَامُهُمْ وَيُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) (49: 14) وَلَوْ سَمِعَ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015