وَالصَّلَاحِ، وَيَخْلَعُ لِلْفُسَّاقِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، وَيُفْرِغُ عَلَى الْمُسْتَكْبِرِينَ حُلَلَ الْإِطْرَاءِ، وَهُوَ أَهْوَنُ الْمُنَافِقِينَ.
وَأَمَّا النِّفَاقُ الْعَامُّ فَهُوَ مَا يَكُونُ فِي الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَخِيَانَةِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ، وَمَا وُجِدَ النِّفَاقُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا صَارَ لِلْإِسْلَامِ قُوَّةُ الدَّوْلَةِ، إِذْ أَسْلَمَ أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ بِظُهُورِ نُورِ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ تَحْجُبُ هَذَا النُّورَ عَنْ بَصَائِرِهِمْ، أَوْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُكَابَرَةِ الْحَقِّ وَجُحُودِهِ، كَكُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الْمَغْرُورِينَ بِثَرْوَتِهِمُ الْوَاسِعَةِ، وَجَاهِهِمْ فِي الْعَرَبِ بِسِدَانَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَإِسْرَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ بِالسُّكْرِ وَالزِّنَا وَأَكْلِ الرِّبَا وَالشَّهَوَاتِ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسَاوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ، وَيُفَضِّلُ الْفَقِيرَ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْغَنِيِّ الْمُسْرِفِ فِي الْفُسُوقِ، وَيَقْتَصُّ لِلسُّوقَةِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَيُحَقِّرُ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَيُكْرِمُ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَيَزْدَرِي الظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ، فَيَسْلُبُهُمْ بِهَذَا جَمِيعَ مَا يَمْتَازُونَ بِهِ عَلَى دَهْمَاءِ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ فِي مَكَّةَ الْفُقَرَاءَ وَبَعْضَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْعُقُولِ الْحُرَّةِ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى، وَكَانَ أَعْلَاهُمْ فِطْرَةً وَأَزْكَاهُمْ نَفْسًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَسَائِرُ الْعَشَرَةِ الْكِرَامِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ.
آمَنَ بَعْضُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَوَّلًا بِلِقَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَدَعَوْا قَوْمَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ عَوْدَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَصَادَفَتْ دَعْوَتُهُمْ رَوَاجًا لِقُوَّةِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَفَضَائِلُ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا كَثُرُوا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ إِذْ عَاهَدَهُ نُقَبَاؤُهُمْ فِي مِنًى عَلَى نَصْرِهِ وَمَنْعِهِ (أَيْ حِمَايَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ) مِمَّا يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ نُورُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَظْهَرْ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ قَوْمُهُمْ مُوَاتَاةً لَهُمْ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ نِظَامٍ لِدِيَانَتِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ يَرْتَبِطُ بِهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيُقِيمُونَهُ وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، فَكَانَ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا الْإِسْلَامَ كَأَسَدٍ وَغَطَفَانَ.
وَكَانَ هُنَالِكَ يَهُودٌ كَثِيرُونَ يُقِيمُ أَكْثَرُهُمْ فِي حُصُونٍ لَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ كَبَنِي قُرَيْظَةَ وَبُنِيَ النَّضِيرِ، وَقَدْ عَاهَدَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُ وَيُظَاهِرُونَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكِينَ كُلَّمَا جَاءُوا لِقِتَالِهِ، بَلْ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَكَانُوا فِي إِظْهَارِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ مُنَافِقِينَ، وَكَانَ لَهُمْ أَحْلَافٌ مِنْ عَرَبِ الْمَدِينَةِ، فَحَافَظَ عَلَى مَوَدَّتِهِمْ مُنَافِقُوهَا بِالسِّرِّ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَحَلِّهِ.
فَكَانَتْ سِيَاسَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ،