تفسير المنار (صفحة 4485)

: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ وَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْمُشْرِكِينَ صَدًّا لِلنَّاسِ عَنْهُ وَتَكْذِيبًا لَهُ كُلَّمَا دَعَا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ كَلَامُهُ مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ جَاهَرُوا بِعَدَاوَتِهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ لِقَرَابَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْرِفَةً فِي عَدَاوَتِهِ وَذَمِّهِ، وَالصَّدِّ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالنَّمِيمَةِ وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْهُ لِتَبْغِيضِهِ لِلنَّاسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ كُنْيَتِهَا: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَطَبَ الشَّائِكَ وَتُلْقِيهِ فِي طَرِيقِهِ بِالْفِعْلِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ تَكُنِ السُّورَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهِ إِلَّا دُعَاءً عَلَيْهِ بِالتَّبَّاتِ، وَهُوَ الْخَسَارُ الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ أَوْ إِخْبَارًا بِهِ، وَبِكَوْنِهِ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الْكَثِيرُ وَمَا كَسَبَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالْوَلَدِ شَيْئًا - فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ - فَهُوَ إِخْبَارٌ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمَا وَمَوْتِهِمَا عَلَى كُفْرِهِمَا، وَخُسْرَانِهِمَا سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ صَدَقَ

خَبَرُ اللهِ وَوَعِيدُهُ لَهُ، فَهُوَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ الَّتِي سَاعَدَ عَلَيْهَا بِمَالِهِ، آسِفًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا بِنَفْسِهِ، فَذَاقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِخِذْلَانِ أَقْرَانِهِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَرُءُوسِ الشِّرْكِ، وَخُسْرَانِ مَالِهِ الَّذِي أَنْفَقَهُ فِيهَا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (8: 36) وَرَأَى بِمِصْدَاقِهَا مَبَادِئَ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرِهِ. مَاتَ بَعْدَهَا بِأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ بِالْعَدَسَةِ شَرَّ مَيْتَةٍ، وَتُرِكَ مَيِّتًا حَتَّى أَنْتَنَ، ثُمَّ اسْتُؤْجِرَ بَعْضُ السُّودَانِ حَتَّى دَفَنُوهُ. وَكَانَ فُجِعَ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ بِوَلَدِهِ عُتْبَةَ الَّذِي كَانَ يَعْتَزُّ بِهِ، افْتَرَسَهُ أَسَدٌ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَمَا أَسْلَمَ أَخُوهُ وَثَانِيهِ فِي جَمْعِ الْمَالِ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَرَأَى مِثْلَ مَا رَأَى هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ، وَصِدْقِ ابْنِ أَخِيهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي وَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) تَجْمَعُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَجَمُ.

ذَكَرْتُ هَذَا التَّنْبِيهَ الطَّوِيلَ لِبَيَانِ غَلَطِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى سَبِّهِمْ وَسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَتَفْنِيدًا لِمَا يَهْذِي بِهِ بَعْضُ مَلَاحِدَةِ الْكُتَّابِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ أَدَبِهِ وَالْأَدَبِ الْجَاهِلِيِّ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ سَبَبْتَ الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدِّينَ وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، فَذِكْرُ السَّبِّ وَالشَّتْمِ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ، عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَفِيهِ رَجُلٌ مُتَّهَمٌ. وَهَاكَ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَعْدَاءَهُ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهُوَ أَشَدُّهُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015