وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي تَبْلِيغِهِ لِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَفِي أَخْذِهِ لَهَا وَقِسْمَتِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا - كَمِثْلِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَفْرُوضَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ إِتَاوَاتٍ وَضَرَائِبَ قَهْرِيَّةً يُؤَدُّونَهَا كَمَا يُؤَدُّونَ سَائِرَ الْمَغَارِمِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُنْفَقُ بِحَسَبِ أَهْوَاءِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، وَيَكُونُ لَهُمْ مِنْهَا أَكْبَرُ نَصِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَإِنَّمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ حِكْمَةَ مَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَسِّمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِالْعَدْلِ، وَيَحْرُمُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَبِهَذَا وَذَاكَ أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِعْلَ التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حِكْمَةِ بَعْثَتِهِ فِي قَوْلِهِ: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (62: 2) وَتَجِدُ التَّفْصِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) .
(الرَّابِعَةُ) وَصْفُ دُعَائِهِ لِلْمُتَصَدِّقِينَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِأَنَّهُ: (سَكَنٌ لَهُمْ) (9: 103) تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَثِقُونَ بِقَبُولِ اللهِ لِصَدَقَاتِهِمْ، وَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُتَصَدِّقٍ مُخْلِصٍ يَنَالُهُ حَظٌّ مِنْ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُتَصَدِّقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي سِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْلُبُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ الدُّعَاءَ لِأَحَدٍ.
(الْخَامِسَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) (9: 128) فَأَثْبَتَ لَهُ شِدَّةَ الْحُبِّ لَهُمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَعِزُّ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَنَتُ وَالْإِرْهَاقُ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ.
(السَّادِسَةُ) وَصْفُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (9: 128) وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ غَيْرِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا فِي كَمَالِهِمَا. وَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ إِرْسَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ رَحْمَةً لَهُمْ خَاصَّةً، وَغَيْرُ إِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بِهِمْ مِنْ صِفَاتِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي سِيَاسَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ، وَتَأْدِيبِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَنْفِيذِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ
السُّورَةِ كَغَيْرِهَا، وَشَوَاهِدِ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَفْسِيرِهَا، فَتَأَمَّلْ خُطْبَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَنْصَارِ فِي أَثَرِ إِنْكَارِ بَعْضِ شُبَّانِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ حِرْمَانَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ (ص 229 وَمَا بَعْدَهَا ج 10 ط الْهَيْئَةِ) فَهِيَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، وَالْكَمَالُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ لِبَشَرٍ كَمَا تَمَّ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
وَأَمَّا إِرْسَالُهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ رِسَالَتِهِ وَفَوَائِدِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ