(الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ) الَّذِينَ اتَّبَعُوا هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ اتِّبَاعًا بِإِحْسَانٍ، أَوْ مُحْسِنِينَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَتَضَمَّنَ هَذَا الْقَيْدُ الشَّهَادَةَ لِلسَّابِقِينَ بِكَمَالِ الْإِحْسَانِ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِيهِ أَئِمَّةً مَتْبُوعِينَ، وَخَرَجَ بِهِ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ مُسِيئِينَ غَيْرَ مُحْسِنِينَ فِي هَذَا الِاتِّبَاعِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ،
وَمَنِ اتَّبَعُوهُمْ مُحْسِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَمُسِيئِينَ فِي بَعْضٍ وَهْمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْآيَاتُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ.
هَؤُلَاءِ الطَّبَقَاتُ الثَّلَاثُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فِي إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَأَعْلَاهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَقَبِلَ طَاعَاتِهِمْ، وَغَفَرَ سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، إِذْ بِهِمْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ، وَنَكَّلَ بِأَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ (وَرَضُوا عَنْهُ) بِمَا وَفَّقَهُمْ لَهُ، وَأَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ نِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شِرْكٍ وَهَدَاهُمْ مِنْ ضَلَالٍ، وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَقْرٍ وَأَعَزَّهُمْ مِنْ ذُلٍّ. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي الْآيَةِ (72) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَأَيُّ فَوْزٍ أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْخَالِدِ مِنْ بَدَنِيٍّ وَرُوحَانِيٍّ؟
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (وَالْأَنْصَارِ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى: (الْمُهَاجِرِينَ) ، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى (وَالسَّابِقُونَ) وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ، بَلْ رُوِيَ أَيْضًا - وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ مَعَ جَعْلِ (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) صِفَةً لِلْأَنْصَارِ وَأَنْكَرَ عَلَى رَجُلٍ قَرَأَهَا بِالْخَفْضِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَلَقَّاهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَاتِبِ الْوَحْيِ وَجَامِعِ الْقُرْآنِ فَسَأَلَ عُمَرُ أُبَيًّا فَصَدَّقَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَكَذَا سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا هَكَذَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَنَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا - يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ - فَقَالَ أُبَيٌّ: تَصْدِيقُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمْعَةِ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (62: 3) .
وَلَفْظُ الِاتِّبَاعِ فِيهَا نَصٌّ فِي الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي صِفَتَيْهِمْ: الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ التَّابِعُونَ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدِّينَ وَالْعِلْمَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَنَالُوا شَرَفَ الصُّحْبَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَسْمِيَةُ هَؤُلَاءِ بِالتَّابِعِينَ اصْطِلَاحِيَّةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَانْتِقَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى.
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَعَبَّرَ فِيهِ عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (8: 75) وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا آيَاتُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَقَدْ عَبَّرَ فِيهَا عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (59: 10) إِلَخْ وَلَا شَكَّ فِي مُشَارَكَةِ سَائِرِ