(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) هَذِهِ طَبَقَاتٌ ثَلَاثٌ هِيَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ فِي جُمْلَتِهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (فَالْأُولَى) السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَعَلَيْهِ الشَّعْبِيُّ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَمَا قَبْلَهُ فِي السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَمِيعًا وَأَمَّا السَّابِقُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَحْدَهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ يَضْطَهِدُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنَ الْهِجْرَةِ مَا وَجَدُوا إِلَى صَدِّهِ سَبِيلًا، وَلَا مَنْجَاةَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ شَرِّهِمْ إِلَّا بِالْفِرَارِ أَوِ الْجِوَارِ، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مُنَافِقٌ كَمَا قُلْنَا ; إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنِّفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُقْتَضًى وَلَا سَبَبٌ، وَلَا لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ دَاعٍ غَيْرَ الْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ بِنَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَتَفَاضَلُونَ فِي السَّبْقِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَفْضَلُهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ فَسَائِرُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ بِأَشْخَاصِهِمْ، وَمَا كُلُّ سَابِقٍ أَفْضَلُ مَنْ كُلِّ مَسْبُوقٍ، وَمِنَ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ مَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالْهِجْرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهَا خَبَرَ بَعْثَتِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ فَصَدَّقَتْ وَآمَنَتْ، وَيَلِيهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهَا، وَهُمْ عَلِيٌّ وَكَانَ ابْنَ 10 سِنِينَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَمِنْ خَارِجِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ آمَنَ عِنْدَمَا دَعَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ أَدْنَى تَرَيُّثٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَلَا فِي أَنَّهُ أَوَّلُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ، وَأَوَّلُ الدُّعَاةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ) السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي مِنًى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَكَانُوا سَبْعَةً، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَيَلِيهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو زُرَارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَكَذَا مَنْ آمَنَ عِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَبْلَ أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ غَالِبَةٌ تُتَّقَى وَتُرْتَجَى، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ رَسَخَتْ عَقِبَ هِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ) (8: 49) وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.