فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَمَّا نَجَا بِالْعِيرِ بِطَرِيقِ الْبَحْرِ إِلَى مَكَّةَ مَشَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَنْفِرُونَ النَّاسَ لِلْقِتَالِ، فَجَاءُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُمْ تِجَارَةٌ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ رِجَالَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرًا - فَفَعَلُوا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَاتِلُ بِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَنِ
اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ. وَفِيهِمْ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
وَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسَطُهُ ... أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ عِصَابَةٌ ... ثَلَاثُ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَا فَأَرْبَعُ
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ فِي الْآيَةِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، أَنْفَقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا، هَذَا عَلَى مَا كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ بُخْلِ أَبِي سُفْيَانَ كَمَا قَالَتْ زَوْجَتُهُ يَوْمَ الْمُبَايَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَيُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ صَدًّا وَفِتْنَةً وَقِتَالًا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَمًا وَأَسَفًا، لِذَهَابِهَا سُدًى، وَخُسْرَانِهَا عَبَثًا، إِذْ لَا يُعْطِيهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ يُغْلَبُونَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيَنْكَسِرُونَ الْكَرَّةَ بَعْدَ الْكَرَّةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أَيْ: يُسَاقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ. هَذَا إِذَا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُمْ شَقَاءُ الدَّارَيْنِ وَعَذَابُهُمَا. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنَ الْكُفَّارِ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ; لِأَنَّ لَهُمْ بِهَا مِنْ حَيْثُ جُمْلَتِهِمْ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ أَفْرَادِهِمُ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، هَكَذَا كَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَامَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ بِحُقُوقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَهَكَذَا سَيَكُونُ، إِذَا عَادُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُونَ. وَالْكُفَّارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُنْفِقُونَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِتْنَةِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْعَوَامِّ، بِجِهَادٍ سِلْمِيٍّ، أَعَمَّ مِنَ الْجِهَادِ الْحَرْبِيِّ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَدْيَانِهِمْ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَى نَشْرِهَا بِتَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَمُعَالَجَةِ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فِي مُسْتَشْفَيَاتِهِمْ. وَالْمُسْلِمُونَ مُوَاتُونَ، يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبَالُونَ مَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (5: 58) .
لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يَعْنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَالْفَوْزَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخِذْلَانَ وَالْحَسْرَةَ لِمَنْ يُعَادِيهِمْ وَيُقَاتِلُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي اسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
مَا دَامَا عَلَى حَالِهِمَا، فَإِذَا غَيَّرَا مَا بِأَنْفُسِهِمَا