الْمُكَاءُ، وَالْآخَرُ يُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ تَصْدِيَةَ الْعَصَافِيرِ; لِيُفْسِدَا عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. قَالَ (نَافِعٌ) : وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ : قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ:
تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا دُعِينَا ... وَهِمَّتُكَ التَّصَدِّي وَالْمُكَاءُ
وَفِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُكَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَتْ قُرَيْشُ يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّوَافِ يَسْتَهْزِئُونَ وَيُصَفِّرُونَ فَنَزَلَتْ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَكَا الطَّيْرُ يَمْكُو مُكَاءً: صَفَّرَ. وَذَكَرَ أَنَّ الْمُكَاءَ فِي الْآيَةِ جَارِ مَجْرَى مُكَاءِ الطَّيْرِ فِي قِلَّةِ الْغِنَاءِ. قَالَ: وَالْمُكَّاءُ (بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ) طَائِرٌ، وَمَكَتْ اسْتُهُ صَوَّتَتْ اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الْقَبِيحَةَ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُمْ
عَمْدًا أَيْضًا، فَذُكِرَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ; لِيَدُلَّ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُذْكَرِ اللَّفْظُ الَّذِي وُضِعَ لَهَا وَحْدَهَا نَزَاهَةً، وَقَالَ فِي التَّصْدِيَةِ: كُلُّ صَوْتٍ يَجْرِي مَجْرَى الصَّدَى فِي أَنْ لَا غِنَاءَ فِيهِ اهـ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ صَلَاتَهُمْ وَطَوَافَهُمْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللهْوِ وَاللَّعِبِ سَوَاءٌ عَارَضُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَوَافِهِ وَخُشُوعِ صَلَاتِهِ وَحُسْنِ تِلَاوَتِهِ أَمْ لَا.
قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَسَّرَ الضَّحَّاكُ الْعَذَابَ هُنَا بِمَا كَانَ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ وَأَسْرِهِمْ لِآخَرِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْ وَانْهِزَامِ الْبَاقِينَ مَكْسُورِينَ مَدْحُورِينَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي طَلَبْتُمُوهُ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوهُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ نَزَلَ هَذَا فِي اسْتِعْدَادِ قُرَيْشٍ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَمَا سَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِغَيْرِهَا بَعْدَهَا. وَيَشْمَلُ اللَّفْظُ بِعُمُومِهِ مَا سَيَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ زَمَنٍ. ذَكَرَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَمَا كَانَ مِنْ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ، وَمِنْ إِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَغَيْرِهَا