افْتِرَاسِ أَقْوِيَائِهِمْ لِضُعَفَائِهِمْ، فَضْلًا عَنِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ هُمْ دُونَهُمْ فِي حَضَارَتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، وَقَدِ انْتَهَوْا فِي الْخُبْثِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْفَتْكِ إِلَى غَايَةٍ لَمْ يَعْرِفْهَا تَارِيخُ الْبَشَرِ فِي أَشَدِّ الْمُتَوَحِّشِينَ جَهْلًا.
(الْأَصْلُ التَّاسِعَ عَشَرَ) أَنَّ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الْمُحَتَّمَةِ أَنْ يَتَحَامَى الْمُسْلِمُونَ سَبَّ مَا يَعْبُدُهُ الْمُشْرِكُونَ حَجَرًا كَانَ أَوْ شَجَرًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ إِنْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفْضِي إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَسُبَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ اللهَ تَعَالَى عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَيُثِيرُ الْعَدَاوَةَ وَيُورِثُ الْأَحْقَادَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَثِّفُ الْحِجَابَ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى قُبْحِ السَّبِّ فِي نَفْسِهِ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ لَائِقٍ بِالْمُسْلِمِ وَلَا مِنْ شَأْنِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ " الْمُسْلِمُ لَيْسَ بِسَبَّابٍ وَلَا لَعَّانٍ " وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي وَمَا يَهْدِي إِلَيْهِ مِنَ الْآدَابِ الْأُخْرَى فِي الْمُعَامَلَاتِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (108) الْآيَةَ - فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 553 - 558 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنْ آخَرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَفِيهِ بَحْثُ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ.
(الْأَصْلُ الْعِشْرُونَ) ابْتِلَاءُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، أَيْ جَعْلِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ
الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الصِّفَاتِ وَالْمَزَايَا الْوَهْبِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ مِمَّا يُخْتَبَرُ بِهِ اسْتِعْدَادُ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ فِي التَّنَافُسِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَا يُفَضَّلُ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِي ذَلِكَ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ طُرُقَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ؛ وَلِذَلِكَ يَنْتَهِي الِاخْتِبَارُ تَارَةً بِارْتِقَاءِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَنَافِسِينَ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ. وَتَارَةً يَنْتَهِي بِالرَّزَايَا وَالنَّكَالِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَتَارَةً يَنْتَهِي بِارْتِفَاعِ فَرِيقٍ إِلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَوِيِّ الْآخَرِ إِلَى أَسْفَلِ الدِّرْكَاتِ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ الْمُهْتَدِينَ بِهَذَا الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ فِي مُنَافَسَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ وَمُنَافَسَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 165) فَعَسَى أَنْ يَتُوبُوا وَيَتُوبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَيَعُودَ بِرَحْمَتِهِ الْخَاصَّةِ عَلَيْهِمْ، فَيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْأَرْزَاءِ، وَيُعِيدَ إِلَيْهِمْ مَا سَلَبَهُمْ مِنَ الْآلَاءِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
(الْأَصْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ) التَّوْبَةُ الصَّحِيحَةُ مَعَ مَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَرَحْمَةَ الرَّبِّ الْغَفُورِ، بِإِيجَابِهِ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَوَعْدِهِ فِي كِتَابِهِ، لَا بِتَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ وَلَا إِيجَابِ مُوجِبٍ وَلَا مُحَابَاةِ شَافِعٍ، وَالْآيَةُ 54 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ نَصٌّ فِي هَذَا الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ إِذْ قَالَ: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)