سُنَنِ اللهِ وَحِكَمِهِ، وَآيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ فِيهَا الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِأَجْلِ الِاسْتِفَادَةِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْأُمَّةُ فِي مَعَاشِهَا وَسِيَادَتِهَا، وَتَشْكُرُ فَضْلَ اللهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ جَعَلْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنْ هِدَايَةِ السُّورَةِ أَصْلًا وَاحِدًا وَهُوَ أَصُولٌ تَتَعَلَّقُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُصُولِ التَّذْكِيرُ وَالْإِشَارَةُ، وَيُمْكِنُ لِلْقَارِئِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ إِرْشَادَ الْقُرْآنِ إِلَى جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ - مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ - وَالْفَلَكِيَّةِ وَالْجَوِّيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ.
وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا الْآيَاتُ الْخَمْسُ الْمُتَّصِلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) (95) إِلَى قَوْلِهِ: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (99) لَكَفَى، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص524 - 537 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي مَعْنَاهَا فِي النَّبَاتِ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ 141) الْآيَاتِ. وَمِثْلُهَا فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً آيَةُ 38 الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
(الْأَصْلُ السَّابِعَ عَشَرَ) الْعِنَايَةُ بِحِفْظِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِمَا سَخَّرَهُ اللهُ مِنْهَا لِلْإِنْسَانِ، وَبِغَيْرِهِ. يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) (38) فَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حَظْرَ قَتْلِ الْكِلَابِ فَقَالَ: " لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا " الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ إِحْدَى الصَّحَابِيَّاتِ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانِ وَتَحْرِيمِ
تَعْذِيبِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَذَكَرْنَا فِي الْمَعْنَى بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى أَبْلَغُ مِنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي مَحَلِّهَا وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ (ص 326 - 336 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) .
(الْأَصْلُ الثَّامِنَ عَشَرَ) إِثْبَاتُ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنْهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِاتِّقَائِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَكُفْرِ النِّعَمِ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ. وَالْآيَةُ 32 نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا فَرَاجِعْهُ فِي (ص 303 - 309 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) .
وَالْمُرَادُ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ تَحْذِيرُ الْعَاقِلِ مِنْ جَعْلِ التَّمَتُّعِ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا كُلَّ هَمِّهِ مِنْ حَيَاتِهِ أَوْ أَكْبَرَ هَمِّهِ فِيهَا، وَإِنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حَدِّ الْمُبَاحِ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا لِلَّهِ وَمَا لِعِبَادِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ، عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ لِمَنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ هَمِّهِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَأَجَلَهُ قَصِيرٌ، وَهُوَ مَشُوبٌ بِالْمُنَغِّصَاتِ، وَعُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ، وَالَّذِي لَا هَمَّ لَهُ فَوْقَهُ يُسْرِفُ فِيهِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَيَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَإِنَّنَا نَرَى أَهْلَ الْحَضَارَةِ الْمَادِّيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَدْ وَصَلُوا إِلَى دَرَجَةٍ رَفِيعَةٍ مِنَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ بِصَارِفَةٍ لَهُمْ عَنْ