تفسير المنار (صفحة 3088)

بَدَلَ بِشَرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) (10: 1، 2) إِلَخْ. وَهَذَا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُهُ عَنْ أَوَّلِ مَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ

الْأَعْرَافِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) (7: 63) وَيَلِيهِ حِكَايَةُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ (آيَةُ 67) .

وَلَمَّا اسْتَبْعَدَ هَؤُلَاءِ الْوَحْيَ لِرَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) (23: 33، 34) زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ أَنْ يُؤَيَّدَ بِمَ‍لَكٍ يَكُونُ مَعَهُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (25: 7) وَقَدْ رُدَّتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْآيَتَيْنِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَبِبَيَانِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِ جُمْهُورِ الْبَشَرِ لِرُؤْيَتِهِمْ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُعِدُّ اللهُ بَعْضَ الْأَفْرَادِ مِنْ كَمَلَتِهِمْ لِذَلِكَ، فَلَا مَنْدُوحَةَ إِذَا أُنْزِلَ الْمَلَكُ عَنْ جَعْلِهِ رَجُلًا، أَيْ مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَتَبْقَى شُبْهَتُهُمْ فِي مَوْضِعِهَا.

هَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى الرِّسَالَةِ وَهِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ بَشَرًا مِثْلَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَمْ تُدَعَّمْ بِحُجَّةٍ وَلَمْ تُؤَيَّدْ بِبُرْهَانٍ، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ بِالْبَدَاهَةِ لِأَنَّهَا تَقْيِيدٌ لِمَشِيئَةِ الْمُرْسِلِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) وَقَدْ كَانَ أُولَئِكَ الْمُشْتَبِهُونَ مُؤْمِنِينَ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ. بَلْ كَوْنُ الرَّسُولِ إِلَى الْبَشَرِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ يَفْهَمُونَ أَقْوَالَهُ وَيَتَأَسَّوْنَ بِأَفْعَالِهِ هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ وَطَبِيعَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّ الْأَوْهَامَ الْجَهْلِيَّةَ تَقْلِبُ الْحَقَائِقَ وَتَعْكِسُ الْقَضَايَا حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْقَرَوِيِّينَ فِي زَمَانِنَا جَاءَ إِحْدَى الْمُدُنِ مَرَّةً فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ لِلِاحْتِفَالِ بِوَالٍ جَدِيدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ السَّلْطَنَةِ، فَرَغِبَ أَنْ يَرَى بِعَيْنَيْهِ الْوَالِيَ الَّذِي أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ أَمَامَهُ وَقِيلَ لَهُ هَذَا هُوَ اسْتَغْرَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا، وَقَالَ كَلِمَةً صَارَتْ مَثَلًا وَهِيَ: حَسِبْنَا الْوَالِيَ وَالِيًا فَإِذَا هُوَ إِنْسَانٌ أَوْ رَجُلٌ مِثْلُنَا.

وَأَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ بَاشَا الدَّامَادُ أَنَّ بَعْضَ فَلَّاحِي الْأَنَاضُولِ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ خَلْقَ السُّلْطَانِ مُخَالِفٌ لِخَلْقِ سَائِرِ النَّاسِ وَأَنَّ لِحْيَتَهُ خَضْرَاءُ اللَّوْنِ، وَلِهَذَا الضَّعْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ يَلْبَسُ بَعْضُ رِجَالِ الْأَدْيَانِ أَزْيَاءَ خَاصَّةً مُؤَثِّرَةً، وَيُوَفِّرُونَ شُعُورَهُمْ لِأَجْلِ اسْتِجْلَابِ الْمَهَابَةِ - فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (6: 9) كَاشِفٌ لِهَذِهِ الْغُمَّةِ مِنَ الْوَهْمِ، وَهَادٍ إِلَى مَا يُوَافِقُ سُنَنَ الْفِطْرَةِ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَاطِعٌ عَلَى الدَّجَّالِينَ طَرِيقَ الْجِبْتِ وَالْخُرَافَاتِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015