تفسير المنار (صفحة 3087)

يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الْأَرْضِ، فَيُوَسِّعُونَ عَلَى النَّاسِ الرِّزْقَ، وَيَقْضُونَ الْحَاجَاتِ بِقُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ إِلَهِيَّةٍ فِيهِمْ مُخَالِفَةٍ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي النَّاسِ، أَوْ بِحَمْلِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْلَاهُمْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَأَنَّهُمْ فِي تَفَوُّقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ أَوْ أَعْظَمَ تَأْثِيرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ فَسَادَ هَذَا الْغُلُوِّ وَبُطْلَانَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ مَيَّزَهُمْ بِالْوَحْيِ وَعَصَمَهُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي تَبْلِيغِ مَا أَمَرَهُمْ بِتَبْلِيغِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَمِمَّا يَحُولُ دُونَ التَّأَسِّي بِهِمْ، وَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِثْرِ قَوْلِهِ: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (48) : (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (50) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (ف ص352 - 360 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) فَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ بُطْلَانَ مَا سَرَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَالْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِي خَزَائِنِ مُلْكِ اللهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَإِلْحَاقِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، حَتَّى صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُسَمَّى الَّذِينَ تُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ آلِهَةً.

شُبَهَاتُ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ

هَذَا الْغُلُوُّ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يُقَابِلُهُ غُلُوُّ آخَرِينَ مِنْهُمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَتِهِمْ وَاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ الْغُلَاةُ أَفْرَطُوا فِي تَصْوِيرِ خُصُوصِيَّتِهِمْ، وَزَادُوا فِيهَا بِأَوْهَامِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ فَرَّطُوا فِيهَا، فَلَمْ يَرَوْا لَهُمْ مَزِيَّةً يَمْتَازُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِهَا، أُولَئِكَ زَادُوا فِي بَيَانِ " حَقِيقَتِهِمْ فَضْلًا فَصَلَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا بَشَرِيَّتَهُمْ مَانِعَةً مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ النَّاسِ، إِذْ رَأَوْهُمْ بَشَرًا وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَزْعُمُ الْغُلَاةُ - قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (91) أَيْ إِنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ بِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى قُلُوبِ بَعْضِ الْبَشَرِ، لِاقْتِضَاءِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَائِرِ الْبَشَرِ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ، كَمَا أَنَّ الْغُلَاةَ فِيهِمْ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَقِيقَةَ الْوَحْيِ وَوَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَيْهِ، وَاقْتِضَاءَ حِكْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص 509 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةُ كَوْنِهِمْ بَشَرًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى رِسَالَةِ الرُّسُلِ كَالْأَعْرَافِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَيس وَالتَّغَابُنِ، وَذُكِرَتْ فِي بَعْضِ السُّورِ بِلَفْظِ رَجُلٍ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015