كُلِّ مَكَانٍ، وَمَنْ لَا يَلْعَنُهُ طُولَ عُمُرِهِ لَا يَسْأَلُهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِهَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ.
(وَمِنْهَا) مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ قَالَ: كَيْفَ نَهَانَا اللهُ تَعَالَى عَنْ سَبِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّبَّ لِئَلَّا يُسَبَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ - وَقَدْ أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ وَإِذَا قَاتَلْنَاهُمْ قَتَلُونَا وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ مُنْكَرٌ "؟ وَكَذَا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّبْلِيغِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ سَبَّ الْآلِهَةِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ وَقِتَالَهُمْ فَرْضٌ وَكَذَا التَّبْلِيغُ، وَمَا كَانَ مُبَاحًا يَنْهَى عَمَّا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى وَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمُقَارِنَةِ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا ; هَلْ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَيُغَيِّرُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ إِنَّ قَدَرَ، وَإِلَّا أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ وَصَبَرَ؟ أَمْ يُجِيبُ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّغْيِيرِ دُونَ حَالِ الْعَجْزِ؟ أَمْ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَغَيْرِهِ فَيَحْرُمُ حُضُورُهُ الْمُنْكَرَ وَلَوْ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؟ أَقْوَالٌ: لَا مَجَالَ هُنَا لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ فِيهَا، وَلَا لِلْإِطَالَةِ فِي فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ.
(كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي يَحْمِلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ - حَمِيَّةً لِمَنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ - زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، أَيْ مَضَتْ سُنَّتُنَا فِي أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وُشُئُونِهِمْ أَنْ يَسْتَحْسِنُوا مَا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَيَتَعَوَّدُونَهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ، أَوْ مِمَّا اسْتَحْدَثُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، إِذَا صَارَ يُسْنَدُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى تَقْلِيدٍ وَجَهْلٍ، أَمْ عَلَى بَيِّنَةٍ وَعِلْمٍ، فَسَبَبُ التَّزْيِينِ فِي الْأَوَّلِ أُنْسُهُمْ بِهِ كَوْنُهُ مِنْ شُئُونِ أُمَّتِهِمُ، الَّتِي يُعَدُّ مَدْحُهَا مَدْحًا لَهَا وَلَهُمْ، وَذَمُّهَا عَارًا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ، وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فِي الثَّانِي مَا يُعْطِيهِ الْعِلْمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ حَقًّا وَخَيْرًا فِي نَفْسِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَضْلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِيهِ وَفِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَشُبُهَاتُ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهَا مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ.
فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ التَّزْيِينَ أَثَرٌ لِأَعْمَالٍ اخْتِيَارِيَّةٍ لَا جَبْرَ فِيهَا وَلَا إِكْرَاهَ، وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ اللهَ خَلَقَ فِي قُلُوبِ بَعْضِ الْأُمَمِ تَزْيِينًا لِلْكُفْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي قُلُوبِ بَعْضِهَا تَزْيِينًا لِلْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ خَلْقًا ابْتِدَائِيًّا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ اخْتِيَارِيٌّ نَشَأَ عَنْهُ ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذُكِرَ لَكَانَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ الْغَرَائِزِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي تُعَدُّ الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، وَمَا يُقَابِلُهُمَا مِنَ النَّهْيِ وَالتَّرْهِيبِ عَنْهَا مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي يَتَنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ لِأَجْلِهِ، وَلَكَانَ عَمَلُ الرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُؤَدِّبِينَ الَّذِينَ يَهْدُونَ النَّاسَ وَيُزَكُّونَ بِالتَّأَدِيبِ - كُلُّهُ مِنَ الْجُنُونِ، وَمَنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأَخْيَارِ وَالْأَشْرَارِ مِنَ النَّاسِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَهُوَ خِلَافٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا مِنِ اسْتِوَائِهِمْ فِي قَابِلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ غَفَلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ هَذَا التَّحْقِيقِ فَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ زَيَّنَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ