وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ وَلَا تَشْفَعُ، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهُمْ حَصَبُ جَهَنَّمَ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالطَّاغُوتِ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَجَعَلَ عِبَادَتَهَا طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى سَبًّا. وَإِنْ زَعَمُوهُ جَدَلًا، لِأَنَّ السَّبَّ هُوَ الشَّتْمُ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِهَانَةُ وَالتَّعْيِيرُ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ مَعْبُودَاتِهِمْ بِذَلِكَ بَيَانُ الْحَقَائِقِ وَالتَّنْفِيرِ عِنِ الْخُرَافَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَأُجِيبَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّ سَبَّ مَا يَسْتَحِقُّ السَّبَّ جَائِزٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُحْظَرُ إِذَا أَدَّى إِلَى مَفْسَدَةِ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَالْحَالُ هُنَا كَذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ، وَكَمِثْلِهَا التِّلَاوَةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَكْرُوهَةِ.
وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا أَدَّتْ إِلَى مَعْصِيَةٍ رَاجِحَةٍ وَجَبَ تَرْكُهَا، فَإِنَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشَّرِّ شَرٌّ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ فَإِنَّ مِنَ الطَّاعَةِ مَا يَجِبُ وَمَا لَا يَجِبُ، وَمِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى بَعْضِ الطَّاعَاتِ أَحْيَانًا مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْ تُرَتُّبِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّفَصِي مِنْهُ، وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ أَحْكَامٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ دَرَجَاتُ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثُ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَدَدِ الْأَوَّلِ مِنْ مَنَارِ السَّنَةِ الْأُولَى فِي بَحْثِ اصْطِلَاحِ كِتَابِ الْعَصْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى لَفْظِ الْكُفْرِ فِي اللُّغَةِ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ اللَّيْلُ كَافِرٌ وَالْبَحْرُ كَافِرٌ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ الْكُفَّارِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ عَلَى الزُّرَّاعِ وَغَلَبَ لَفْظُ الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ وَعُرِفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِمَعْنَى الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ الصَّحِيحِ شَرْعًا، ثُمَّ غَلَبَ فِي عُرْفِ كُتَّابِ هَذَا الْعَصْرِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ الْمُعَطِّلِينَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَصَارَ إِطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مُتَدَيِّنٍ سَبًّا وَإِهَانَةً، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى مَنْ يَحْرُمُ إِيذَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا إِذَا تَأَذَّى بِهِ وَلَا سِيَّمَا فِي الْخِطَابِ. وَذَكَرْنَا لِهَذَا مِنْ فَتَاوَى الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ قَالَ: إِذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً. وَفِيهِ نَقْلًا عَنِ الْغُنْيَةِ: وَلَوْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ يَا كَافِرُ يَأْثَمُ إِنَّ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ اهـ.
(وَمِنْهَا) مَا ذَكَرْتُهُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي الْمُخْتَلِفِينَ فِي لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ
(الْمَنَارِ ص 630 م7) بَعْدَ بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لَعْنِهِ مِنَ التَّعَادِي بَيْنَ الشِّيعَةِ وَالسُّنِّيِّينَ وَهُوَ: لِهَذَا لَا أُبَالِي أَنْ أَقُولَ: لَوِ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ. وَغَرَضِي مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّعْنَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَجْعَلُهُ مُحَرَّمًا وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يُحَرِّمُونَ لَعْنَهُ، وَقَدْ لَعَنَ اللهُ الشَّيْطَانَ وَيَلْعَنُهُ اللَّاعِنُونَ فِي