حِكْمَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مُرَاعِيًا فِيهَا الْمُعْتَمَدُ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ إِلَّا أَنَّهُمَا نَجِسَانِ، وَفِي الْخِنْزِيرِ إِلَّا أَنَّهُ مُسِخَ بِصُورَتِهِ قَوْمٌ، وَقَدْ أَعْجَبَنِي فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: " فِي اخْتِيَارِ أَقْرَبِ طَرِيقٍ لِإِزْهَاقِ الرُّوحِ اتِّبَاعُ دَاعِيَةِ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ خَلَّةٌ يَرْضَى بِهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْمَصَالِحِ الْمَنْزِلِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُقْطَعُ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ أَقُولُ: كَانُوا يُجِبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ وَيَقْطَعُونَ أَلِيَّاتِ الْغَنَمِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْذِيبٌ وَمُنَاقَضَةٌ لِمَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الذَّبْحِ، فَنُهِيَ عَنْهُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ سَأَلَهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ قَتْلِهِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: أَنْ يَذْبَحَهُ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْطَعَ رَأْسَهُ فَيَرْمِيَ بِهِ أَقُولُ: هَهُنَا شَيْئَانِ مُشْتَبِهَانِ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، أَحَدُهُمَا: الذَّبْحُ لِلْحَاجَةِ وَاتِّبَاعِ إِقَامَةِ مَصْلَحَةِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالثَّانِي: السَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِإِفْسَادِ نَوْعِ الْحَيَوَانِ، وَاتِّبَاعِ دَاعِيَةِ قَسْوَةِ الْقَلْبِ. انْتَهَى. وَهُوَ مُوَافِقٌ وَمُؤَيِّدٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(حِكْمَةُ إِبَاحَةِ قَتْلِ الْحَيَوَانِ لِأَجْلِ أَكْلِهِ)
ذَهَبَ بَعْضُ الْبَرَاهِمَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَى أَنَّ تَذْكِيَةَ الْحَيَوَانِ وَصَيْدَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ قَبِيحٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُعَذِّبَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَبَاحَتْ أَكْلَ الْحَيَوَانِ كَالْمُوسَوِيَّةِ وَالْعِيسَوِيَّةِ وَالْمُحَمَّدِيَّةُ، وَمِمَّا يَطْعَنُ بِهِ النَّاسُ فِي أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ الْفَيْلَسُوفِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ اسْتِقْبَاحًا لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَعُدُّهُ تَوَحُّشًا، لَا أَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ بِطَبْعِهِ كَكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِهَذَا مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَرِضَ فَوَصَفَ لَهُ الطَّبِيبُ فَرُّوجًا، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ مَطْبُوخًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَضْعَفُوكَ فَوَصَفُوكَ، هَلَّا وَصَفُوا شِبْلَ الْأَسَدِ؟ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ لَوْ لَمْ تُبِحْ لِلنَّاسِ أَكْلَ الْحَيَوَانِ لَكَانَ
هَذَا الِاعْتِرَاضُ يَرِدُ عَلَى نِظَامِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ سُنَنِهِ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ بَعْضًا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَالْإِنْسَانُ أَجْدَرُ بِأَنْ يَأْكُلَ بَعْضَ الْحَيَوَانِ ; لِأَنَّ اللهَ فَضَّلَهُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ وَسَخَّرَهَا لَهُ كَمَا سَخَّرَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْقُوَى ; لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْعَجَائِبِ وَاللَّطَائِفِ وَالْمَحَاسِنِ. وَامْتِنَاعُ النَّاسِ عَنْ أَكْلِ مَا يَأْكُلُونَ مِنَ الْحَيَوَانِ كَالْأَنْعَامِ لَا يَعْصِمُهَا مِنَ الْمَوْتِ بِالْمَرَضِ أَوِ التَّرَدِّي، أَوْ فَرْسِ السِّبَاعِ لَهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ كُلُّ مِيتَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمِيتَاتِ أَهْوَنَ وَأَخَفَّ أَلَمًا مِنَ التَّذْكِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي كَتَبَ اللهُ فِيهَا الْإِحْسَانَ وَمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَنَحْنُ نَرَى الشَّاةَ إِذَا شَمَّتْ رَائِحَةَ الذِّئْبِ أَوْ سَمِعَتْ عُوَاءَهُ تَنْحَلُّ قُوَاهَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ الدَّجَاجِ