أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ مُقَاوَمَةَ الظُّلْمِ بِالْجَهْرِ بِالشَّكْوَى مِنْهُ وَبِكُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُمْكِنَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا جَهْرَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الظُّلْمُ لِلدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْجَهْرَ بِمَعْنَى الْمُجَاهِرِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ ; أَيْ لَا يُحِبُّ اللهُ الْمُجَاهِرِينَ بِالسُّوءِ إِلَّا الْمَظْلُومِينَ مِنْهُمْ إِذَا هَبُّوا لِمُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ، وَلَوْ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ إِذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ.
وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قُلْنَاهُ آنِفًا أَنَّ إِبَاحَةَ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ لِلْمَظْلُومِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتَهُ لَهُ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ ; لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَالضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَّبِعَ هَوَاهُ فِي الِاسْتِرْسَالِ وَالتَّمَادِي فِي الْجَهْرِ بِالسُّوءِ، بِمَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي مَنْعِ الظُّلْمِ وَالتَّفَصِّي مِنْهُ وَأَطْرِ الظَّالِمِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْأَخْذِ عَلَى
يَدِهِ أَوْ يَنْتَهِي عَنِ الظُّلْمِ، وَأَرْجُو أَلَّا يُؤَاخِذَهُ اللهُ بِمَا يُحَرِّكُ بِهِ الْأَلَمُ لِسَانَهُ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْحًا لِظُلَامَتِهِ، وَوَسِيلَةً لِلِانْتِصَافِ مِنْ ظَالِمِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: " إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ; أَيْ كَانَ السَّمْعُ وَالْعِلْمُ وَلَا يَزَالَانِ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ فَلَا يَفُوتُهُ تَعَالَى قَوْلٌ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ السَّبَبُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِ الْعِبَادِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَلَا نِيَّاتِهِمْ فِيهِمَا، فَمَنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْجَهْرِ بِالسُّوءِ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ لِضَرَرِهِ وَمَفْسَدَتِهِ فِيهِمْ بِسَبَبِ الظُّلْمِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ عَلَى جَهْرِهِ، وَرُبَّمَا أَثَابَهُ عَلَى مَا يَقْصِدُ مِنْ رَفْعِ الضَّيْمِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِرْجَاعِ الظَّالِمِ إِلَى رُشْدِهِ، وَإِرَاحَةِ النَّاسِ مِنْ شَرِّهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤَاخَذْ عَلَى ظُلْمِهِ إِيَّاهُ يَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ وَإِصْرَارًا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ كِرَامِ النَّاسِ وَأَتْقِيَائِهِمُ الَّذِينَ لَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْهُمْ إِلَّا هَفَوَاتٍ.
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عُذْرِ الظُّلْمِ، بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ إِبْدَاءِ الْخَيْرِ وَإِخْفَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا، وَحُكْمَ الْعَفْوِ عَنِ السُّوءِ وَعَدَمِ مُؤَاخَذَةِ فَاعِلِهِ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ فَاعِلِي الْخَيْرَاتِ، جَهْرًا أَوْ سِرًّا، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْهِمْ يَجْزِيهِمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَيَعْفُو عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَيُجْزِلُ مَثُوبَتَهُمْ، وَكَانَ شَأْنُهُ الْعَفْوَ وَهُوَ الْقَدِيرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ الثَّوَابُ الْكَثِيرُ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَإِذَا عَفَا فَإِنَّمَا يَعْفُو عَنْ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْعِقَابِ، فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ (وَهِيَ كَلِمَةُ قَدِيرٍ) هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى إِجْزَالِ الْمَثُوبَةِ وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ