مِنَ الْكَلِمَاتِ ذَاتِ الْمَدْلُولَاتِ الضَّارَّةِ؟ فَأُعْجِبَ الْأُسْتَاذُ بِذَكَائِهَا وَفَهْمِهَا، وَوَافَقَهَا عَلَى قَوْلِهَا، وَأَظُنُّ أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اجْتِنَابُهُ عِنْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْحَقَائِقِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَمُلَتْ تَرْبِيَتُهُمْ، وَإِنَّمَا يُتَحَرَّى اجْتِنَابُ ذِكْرِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فِي خِطَابِ النَّشْءِ فِي الْمَدَارِسِ وَالْبُيُوتِ. وَتَكَلَّمَ فِي تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي كُلِّ سَامِعٍ. وَذَكَرَ كَلِمَتَهُ الَّتِي نَقَلْنَا آنِفًا، فَقَالَتْ لَهُ الْفَتَاةُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُفَسِّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْجَلِيلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِنَّ الْعِلْمَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِجْمَالِيًّا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلَوْ فِي الْمَكَانِ الْخُلْوِ (أَوْ كَتَبَهُ) يَنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِعَادَةُ ذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِمْ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِمْ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: أَحْسَنْتِ.
لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا الْإِسْرَارَ بِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ نَهْيِهِ تَعَالَى عَنِ النَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، وَأَمْرِهِ بِالتَّنَاجِي بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَقَطْ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْجَهْرَ هُنَا بِالذِّكْرِ لِمُنَاسَبَةِ بَيَانِ مَفَاسِدِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ كَمَا عَلِمْتَ. وَالْجَهْرُ بِالسُّوءِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنَ الْإِسْرَارِ بِهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ وَفَسَادَهُ يَفْشُو فِي جُمْهُورِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ. وَقَدْ قُلْتُ يَوْمًا لِلْعَالِمِ اللُّغَوِيِّ الرَّاوِيَةِ الشَّهِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّد مَحْمُود بْنِ التَّلَامِيدِ التَّرْكَزِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ: إِنَّنِي أَنْكَرْتُ نَفْسِي فِي مِصْرَ فَإِنَّ كَثْرَةَ رُؤْيَتِي لِلْمُنْكَرَاتِ فِيهَا كَكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى أَفَارِيزِ الطُّرُقَاتِ، وَكَثْرَةِ سَمَاعِي لِقَوْلِ السُّوءِ خَفَّفَ اسْتِبْشَاعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَضَعُفَ كُرْهُ أَصْحَابِهِ وَالنُّفُورُ مِنْهُمْ، فَإِنَّنِي كُنْتُ فِي بَلَدِي الْقَلَمُونِ الْمُجَاوِرَةِ لِطَرَابُلُسَ الشَّامِ، إِذَا سَمِعْتُ بِأَنَّ
رَجُلًا ارْتَكَبَ فَاحِشَةً لَا أَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ وَلَا الْحَدِيثَ مَعَهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: وَأَنَا أَيْضًا أَنْكَرْتُ نَفَسِي مِثْلَكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَاذَا اخْتَرْتَ تَرْكَ وَطَنِكَ الَّذِي لَا تَرَى وَلَا تَسْمَعُ فِيهِ مِنَ الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ السُّوءِ مِثْلَ الَّذِي تَرَى وَتَسْمَعُ فِي مِصْرَ الَّتِي آثَرْتَهَا عَلَيْهِ؟ فَجَوَابِي: إِنَّنِي لَمْ أَكُنْ أَسْتَطِيعُ، وَأَنَا فِي وَطَنِي الْأَوَّلِ، أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَلَا أَنْ أَكْتُبَهُ، وَلَا أَنْ أَخْدِمَ الْمِلَّةَ وَالْأُمَّةَ بِمَا خَدَمْتُهُمَا بِهِ فِي مِصْرَ، وَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْخِدْمَةَ فَرْضٌ عَلَيَّ، وَقَدْ آذَتْنِي الْحُكُومَةُ الْحَمِيدِيَّةُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِي وَمَالِي وَأَنَا بَعِيدٌ عَنْ سُلْطَتِهَا، وَلَوْ قَدَرَتْ عَلَيَّ لَمَا اكْتَفَتْ بِمَنْعِي مِنْ هَذِهِ الْخِدْمَةِ بَلْ لَنَكَّلَتْ بِي تَنْكِيلًا.
لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أَيْ لَكِنْ مَنْ ظَلَمَهُ ظَالِمٌ فَجَهَرَ بِالشَّكْوَى مِنْ ظُلْمِهِ شَارِحًا ظُلَامَتَهُ لِلْحُكَّامِ أَوْ غَيْرِ الْحُكَّامِ مِمَّنْ تُرْجَى نَجْدَتُهُ وَمُسَاعَدَتُهُ عَلَى إِزَالَةِ الظُّلْمِ - فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْجَهْرِ، وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَمَّا يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ أَنْ يَسْكُتُوا عَلَى الظُّلْمِ وَيَخْضَعُوا لِلضَّيْمِ بَلْ يُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَعِزَّاءَ أُبَاةً، فَإِذَا تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةُ الْجَهْرِ بِالشَّكْوَى مِنَ الظُّلْمِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ السُّوءِ، وَمَفْسَدَةُ السُّكُوتِ عَلَى الظُّلْمِ وَهُوَ مَدْعَاةُ فُشُوِّهِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ الْأُمَمِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، كَانَ