فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ التَّمَتُّعُ أَوْ طُولُ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَتَاعِ، أَيِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ (9: 69) ، أَيْ نَصِيبِكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ فِي اسْتَمْتَعْتُمْ لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلطَّلَبِ الَّذِي هُوَ الْغَالِبُ فِي مَعْنَاهَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الصِّيغَةِ لِلطَّلَبِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ، وَالْأُجُورُ: جَمْعُ أَجْرٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ الَّذِي يُعْطَى فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، ثُمَّ خُصَّ بَعْدَ زَمَنِ التَّنْزِيلِ
أَوْ غَلَبَ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالْفَرِيضَةُ: الْحِصَّةُ الْمَفْرُوضَةُ أَيِ الْمُقَدَّرَةُ الْمُحَدَّدَةُ، مِنْ فَرْضِ الْخَشَبَةِ إِذَا حَزَّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ الْعَرَبِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَدِّرُونَ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَقَايِيسِ وَالْأَعْدَادِ بِفَرْضِ الْخَشَبِ، وَأَقْرَبُ شَاهِدٍ عِنْدِي عَلَى هَذَا مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ اللَّبَنِ كُلَّ صَبَاحٍ، حَيْثُ أُقِيمُ الْآنَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَبَائِعُ اللَّبَنِ بُلْغَارِيٌّ وَأَصْحَابُ الْبَيْتِ الَّذِي أُقِيمُ فِيهِ مِنَ الْأَرْمَنِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ لِي مِنْهُ، وَيَفْرِضُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَرْضًا فِي خَشَبَةٍ، وَفِي كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يُحَاسِبُونَنِي وَيُحَاسِبُونَهُ بِهَذِهِ الْفُرُوضِ.
وَيُطْلَقُ الْفَرْضُ وَالْفَرِيضَةُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ اللهُ مِنَ التَّكَالِيفِ إِيجَابًا حَتْمًا ; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْخَشَبِ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَلَّ لِلتَّرَدُّدِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى، فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي أُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا تَزَوُّجَهُنَّ بِأَمْوَالِكُمُ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، أَيْ: تَزَوَّجْتُمُوهَا فَأَعْطُوهَا الْأَجْرَ وَالْجَزَاءَ بَعْدَ أَنْ تَفْرِضُوهُ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (4: 4) ، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاحِظَ فِي الْمَهْرِ غِنًى أَعْلَى مِنْ مَعْنَى الْمُكَافَأَةِ وَالْعِوَضِ؛ فَإِنَّ رَابِطَةَ الزَّوْجِيَّةِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُلَاحَظَ فِيهِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَأَقُولُ: إِنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ هُنَا أَجْرًا، أَيْ ثَوَابًا وَجَزَاءً لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ مَا فِي الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَعْنَى سُكُونِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ وَارْتِبَاطِهِ مَعَهُ بِرَابِطَةِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الرُّومِ، كَمَا لَا يُنَافِي مَا بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ حُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ ص 300 ج2 [الْهَيْئَةُ الْعَامَّةُ لِلْكِتَابِ] ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ دَرَجَةً هِيَ دَرَجَةُ الْقِيَامَةِ، وَرِيَاسَةِ الْمَنْزِلِ الَّذِي يُعَمِّرَانِهِ، وَالْعَشِيرَةِ الَّتِي يُكَوِّنَانِهَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ هُوَ فَاعِلَ الِاسْتِمْتَاعِ، أَيِ الِانْتِفَاعِ، وَهِيَ الْقَابِلَةُ لَهُ وَالْمُوَاتِيَةُ فِيهِ، فَرَضَ لَهَا سُبْحَانَهُ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الِامْتِيَازِ الَّذِي جَعَلَهُ لِلرَّجُلِ جَزَاءً وَأَجْرًا تَطِيبُ بِهِ نَفْسُهَا، وَيَتِمُّ بِهِ الْعَدْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَالْمَهْرُ لَيْسَ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ، وَلَا جَزَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا سِرُّهُ وَحِكْمَتُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهَا جَامِعٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ الْآنَ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَرَ عَلَى بَالِي مِنْ قَبْلُ عَلَى وُضُوحِهِ فِي نَفْسِهِ.
وَهَلْ يُعْطَى هَذَا الْأَجْرُ الْمَفْرُوضُ وَالْمَهْرُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بَعْدَهُ؟
إِذَا قُلْنَا: