الثاني: أن الاجتهاد أقوى فكان أحبها , وهم [في] التزام الحكم به أولى , وهذا قول من جوز من الأنبياء وجود الغلط. وقال الآخرون: لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا في الأحكام , لأن الاجتهاد إنما يلجأ إليه الحاكم لعدم النص , والأنبياء لا يعدمون النص لنزول الوحي عليهم , فلم يكن لهم الإجتهاد وهذا قول من قال بعصمة الأنبياء من الغلط والخطأ فأما ما استقر عليه شرعنا فيما أفسدته البهائم من الزرع فقد روى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً وأفسدته , فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المواشي بحفظ مواشيهم ليلاً , وعلى أهل الحوائط بحفظ حوائطهم نهاراً , فصار ما أفسدته البهائم بالليل مضموناً , وما أفسدته نهاراً غير مضمون لأن حفظها شاق على أربابها , ولا يشق عليهم حفظها نهاراً , فصار الحفظ في الليل واجباً على أرباب المواشي فضمنوا ما أفسدته مواشيهم , والحفظ في النهار واجباً على أرباب الزروع , فلم يحكم لهم - مع تقصيرهم - بضمان زرعهم , وهذا من أصح قضاء وأعدل حكم , رفقاً بالفريقين , وتسهيلاً على الطائفتين , فليس ينافي هذا ما حكم داود [به] وسليمان عليهما السلام من أصل الضمان , لأنهما حكما به في رعي الليل , وإنما يخالف من صفته , فإن الزرع في شرعنا مضمون لأنهما حكما بنقصانه من زائد وناقص , ولا تعرض للبهائم المفسدة إذا وصل الضمان إلى المستحق. ثم قال تعالى: {وَكُلاًّءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أتى كل واحد منهما من الحكم والعلم مثل ما آتى الآخر وفي المراد بالحكم والعلم وجهان محتملان: أحدهما: أن الحكم القضاء , والعلم الفتيا. الثاني: أن الحكم الاجتهاد , والعلم النص.