مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية؛ فقال أبو بكر الصديق: يا رسول اللَّه: كل من عمل منا شر يراه؟ فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما يرون في الدنيا مما يكرهون فهو من ذاك، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة ".
وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) و (شَرًّا يَرَهُ)، على الإحصاء والحفظ؛ كقوله - تعالى -: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .)، أي: لا يذهب عنه شيء قليل ولا كثير حتى الذرة.
ويحتمل وجها آخر، وهو أن قوله - تعالى -: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. . .)، أي: من يعمل من المؤمنين مثقال ذرة خيرا يره في الآخرة، ومن يعمل من الكفار مثقال ذرة شرا يره في الآخرة؛ لأن اللَّه - تعالى - قد أخبر في غير آي من القرآن أنه يتقبل حسنات المؤمنين، ويتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ونحو ذلك من الآيات.
وقوله: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ليس على إرادة حقيقة الذرة؛ ولكن على التمثيل.
ثم قيل من إخبار الأرض وما ذكر من شهادة الجوارح: أن كيف احتمل ذلك، وهي أموات، والموات لا علم لها؟ فجائز أن يكون اللَّه - تعالى - يجعل لها علما، وينطقها بذلك، وأن لها بذلك علما على جعلها آية.
ثم في قوله - تعالى -: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) دلالة أن قوله - تعالى -: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)، وقوله: " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو "، وقول الناس: " نقرأ كلام رب العالمين "، و " في المصاحف قرآن " ألا يراد به حقيقة كون كلام اللَّه - تعالى - في المصاحف، ولا حقيقة كون القرآن فيها والسفر به، ولا حقيقة سماع كلامه، ويكون على ما أراد من سماع ما به يفهم كلامه، أو يسمع ما يعبر به عن كلامه، وكذلك يكون في المصاحف ما يفهم به كلامه، أو ما يعبر به عن كلامه؛ على ما ذكر من رؤية الأعمال، وأعين الأعمال لا ترى، ولكن يرى ما يدل عليها، وهو المكتوب من أعمالهم في الكتب التي فيها أعمالهم؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم بالصواب.