ثم إن أهل التوحيد أقروا بالعذاب، فاجتهدوا في اتقائه، فقيل لهم: انطلقوا إلى ظلال وعيون؛ وأهل النار كانوا مكذبين بالعذاب، فقيل لهم: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)، من العذاب.
ثم أخبرنا بالوجه الذي يقع به الاتقاء فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، وأمرنا بالانتصاب لمحاربته، ثم علمنا وجه المحاربة بقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)، وقال: - تعالى -: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقال: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، فألزمنا الفزع إليه، وبين أنا لا نقوى على محاربته إلا بالابتهال إليه والفزع.
ثم يحتمل أن يكون الاتقاء هاهنا منصرفا إلى التصديق خاصة؛ لأنه ذكر الاتقاء هاهنا مقابل التكذيب في الأولين.
وجائز أن يكون منصرفا إلى المصدقين بالأقوال، والموفين بالأعمال؛ فالمتقي: هو الذي اتقى إساءة صحبة نعم اللَّه تعالى فوقاه اللَّه - تعالى - شر يوم القيامة، مجازاة له، والمحسن: هو الذي أحسن صحبة نعمه، فأحسن اللَّه منقلبه، وأحله بدار كرامته، في ظلال وعيون وفواكه.
أو المتقي: هو الذي وقى نفسه عن المهالك، فوقاه اللَّه تعالى يوم القيامة، والمحسن: هو الذي أحسن إلى نفسه، وهو الذي استعملها في طاعة اللَّه تعالى؛ فأحسن اللَّه إليه بما أنعم عليه من الظلال والعيون.
ثم أخبر أنهم في ظلال؛ لأن الظلال مما ترغب إليه الأنفس في الدنيا؛ لأنها تدفع عنهم أذى الحر والبرد وأذى المطر والرياح، وغير ذلك، وظلال الأشجار والحيطان تدفع أذى الحر، وظلال البنيان تدفع أذى الحر والبرد والمطر، وهي لا تحول - أيضا - بين المرء والأشياء، عن أن يدرك حقائقها؛ فعظمت النعمة في الظلال، ووقعت إليها الرغبة في الدنيا، فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ)، وقال تعالى: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ)، ثم الأنفس إذا أوت أوت إلى الظلال، اشتهت ما تتمتع به الأبصار، وأعظم ما تتلذذ به الأبصار أن يكن نظرها إلى المياه الجارية؛ فأخبر أنهم في ظلال وعيون.