وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية، ولو كان كما زعموا، لم يكن لقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) معنى؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعدما صارت رميمة؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان؛ فلا معنى للرد عليه بقوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية، لكان الإنكار مدفوعا؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها، وقال اللَّه تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا، لا غير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4):
فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ).
ومنهم من ذكر أن قوله: (بَلَى)، جواب لقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ)، فاكتفى بقوله: (بَلَى) بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث؛ فاقتصر على قوله: (بَلَى) على الوصل بما تقدم من الدلالات.
ومنهم من جعل جوابه في قوله: (قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)، معنى تسوية البنان: هو الجعل من عظم واحد، مجموعا غير متفرق، مثل خف البعير، وحافر الدواب.
ووجه الاستدلال: أنهم أقروا بأن اللَّه تعالى قادر على أن يسوي البنان؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا وأيسر فعلا من تسوية البنان؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة، ويعجز عن تسوية البنان؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق، ثم وصفوا اللَّه تعالى بالقدرة على تسوية البنان، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها؟ تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا!!.
ومنهم من يقول بأن اللَّه تعالى لما لم يسو بين بنان الإنسان، وسوى بين بنان الدواب؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء، وإلى التقديم والتأخير، والقبض والبسط، وأنواع المنافع التي