تحملوا أمرا لا يطيقونه؛ ألا ترى الإنسان يحتمل القتل، ولكن قتله يهلك طاقته.
وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)، أي: اعصمنا من الشهوات واللذات؛ لئلا نؤثرها؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به؛ فلا نصل إلى فعله، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل، بل تطابقه، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف.
وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)، أي: لن تحصوا حد ما أمركم به، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث، ولو كان على حد واحد، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد، وفي ذلك كلفة عسيرة.
ويؤيد هذا تأويل من قال: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)، أي: لن تطيقوه، وتكون الطاقة عبارة عن التعسير، واشتداد الأمر.
ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان، لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب، ويغلب على الظنون، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب.
والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا: أن اللَّه تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني، ولم يبين مبلغ وقوع الضرب فيه، ولا ما يضرب به، فقدر ذلك بما يقع في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية، وكذلك قيم الأشياء، والأروش، والنفقات، وتسوية المكاييل، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين: مرة ينظر غيره فيتمثل بها؛ فيسمى ذلك: قياسا، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون؛ فيسمى ذلك: استحسانا.
وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة - رحمه اللَّه - أن الوتر لو كان له مشابهٌ في الفرض، لكان لا يختلف لعدده - سؤال غير مستقيم؛ لأنه قد فرض على القوم أن