كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك، وهو كما قلنا في البر والتقوى: إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر، وإذا جمعا في الذكر، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة.
وقال الحسن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوهُ)، أي: اتقوا اللَّه في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى وما يتقى.
ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى اللَّه، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة: (اعْبُدُوا اللَّهَ)، فأضافها إلى اللَّه تعالى، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله: (وَأَطِيعُونِ)، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك باللَّه تعالى في الطاعة، بل اللَّه تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وذم من يعدل باللَّه تعالى في العبادة بقوله تعالى: (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف، واللَّه تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا على الأمر لا غير؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، سموا: عباد الأصنام، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) إن صرفت قوله: (وَاتَّقُوهُ) إلى اتقاء الشرك يرجع قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا؛ وهو كقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)؛ فيكون قوله (مِن) صلة على ما ذكره أهل التفسير، ومعناه: يغفر لكم ذنوبكم.
وجائز أن يكون قوله: (مِن) على التحقيق ليس على حق الصلة؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص