يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض، وقطع الأسفار، وتحمل المؤن، وركوب الأهوال والفظائع، والانقطاع عن اللذات؛ كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية؛ لما يرجو من النفع والربح في ذلك، فتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن، لما يطمع من نيل اللذات التي هي أعظم من اللذات التي تركها؛ فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة، وتفكر في عقابها، سهل عليه ترك اللذات الحاضرة، وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا.
ووجه آخر: أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا، فيكون شغله أبدا فيما يوصله إلى نعيم الآجل، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة، فيجتهد فيما فيه التخلص والنجاة عن تلك الآلام، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) معناه - واللَّه أعلم -: لأن المصلين يقومون برياضة أنفسهم حتى يصرفوها عن خلقتها التي أنشئت عليها، ثم بين أن الذين يقومون برياضة أنفسهم هم الذين يقومون على صلواتهم دون الذين يقومون إلى الصلاة كسالى ولا يدومون عليها، ولا ينفقون من أموالهم إلا عن كراهة.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) دوامهم عليها في لزوم ما عرفوها، وهو أن يقيموها في أوقاتها، ويحافظوا عليها دون أن يكون دوامهم أن يكونوا فيها أبدا؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أحب الأعمال إلى اللَّه أدومها وإن قلَّ " وأراد بقوله: " أدومها ": لزومها في الوقت الذي أوجبوا فعل ذلك على أنفسهم، لا أن يكونوا أبدًا فيها؛ لأنهم إذا بقوا فيها أبدًا، كثر ذلك منهم، قلا يكون لقوله: " وإن قلَّ " معنى، فثبت أن معنى الدوام ما وصفنا، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون المراد من المداومة هو أن يدوم على الأحوال التي تليق بالصلاة عند كونه فيها من الإقبال على المناجاة، وترك الالتفات، وتفريغ القلب عن الأشغال والوساوس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ): هو التطوع، و (عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): الفريضة.