نافرة عن الضر ومبغضة له، وقال اللَّه تعالى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، وقال في موضع آخر: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، أي: لا يسخو على إخراج ما في يديه.
ففي هذه الآيات إنباء أن الإنسان خلق على هذه الأحوال: قتورا عجولا، هلوعا، فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه ويتألم به، علم أنه خلق على هذه الأحوال؛ للمحنة، فمن تذكر فيما وعد اللَّه تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به، حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا؛ لينال الموعود في الآخرة؛ إذ هو في الأصل أنشئ محبًّا لما يتلذذ به، ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي اللَّه تعالى، وبما يمنع من حقوق اللَّه تعالى الواجبة في ماله، سهل عليه ترك الشهوات، وخف عليه بذل ما طلب منه؛ لئلا يحل به ما ينغص بعيشه من الآلام والأوجاع والمكاره.
والأصل أن الإنسان وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل، والإقتار، والعجلة، وجبل عليها، فقد ملك رياضة نفسه، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة، والشمائل المرضية؛ فلزمه القيام بذلك؛ ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد، حتى تصير منقادة للخلق، ذليلة لهم، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها، فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يستخرجها عن خلقها؛ فتصير مطيعة له، ويخف عليها بذل ما يطلب منها، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها.
ثم الأصل: أن المرء، وإن جبل على حب ما يتلذذ به، وبغض ما يتألم ويتوجع منه، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة؛ للذة هي أعظم منها، وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه؛ ليتخلص عما هو أعظم من ذلك المكروه والألم، وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، وأقرب اللذتين بأبعدهما، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى، خف عليه ترك أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما، وإذا قابل مكروه الدنيا بمكروه الآخرة، وعذابها بعذاب الآخرة، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا؛ فهذا السبب الذي ذكرنا ما يتوصل به إلى رياضة النفس.
والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة؛ لما