والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا: أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة؛ لما فيه من السفه؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها.

أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة، والإفضال بالمغفرة يخرج مخرج الإباحة لذلك - لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها.

ولأن الكافر اختار عداوة اللَّه تعالى وكفران نعمه، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو، وفي ذلك تضييع الحكمة؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال، وأنه غير مستوجب للعذاب؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، فاللَّه تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه؛ لاستحقاقه الإحسان، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم، وأن العذاب قد لزمهم، وأنهم مستوجبون للعقاب، فإذا عفا عنهم، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل اللَّه تعالى فيقع الإحسان موقعه.

ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته، ويخرج فعله هذا مخرج التذلل له، فلو لم يؤاخذ اللَّه الكافر بما تعاطى من الكفر، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل، واللَّه تعالى يجل عن هذين الوصفين؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو، واللَّه أعلم.

وفي قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا) دلالة أن لله تعالى أن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015