إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر، فعند ذلك يقع التدافع، وإذا لم ير فيه فطورًا أو شقوقًا، بل رآه متسقا مجتمعا؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه.
وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره؛ فيكون في ارتفاع الفطور والتفاوت إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء؛ لأن العدد إذا ثبت، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله.
أو يشتغل كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة؛ ألا ترى إلى قوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ)، قيل: يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي خلقه؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله.
وقيل في قوله: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) أي: من حيث الدلالة على وحدانية الرب - تعالى - أو من حيث الحكمة والمصلحة؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها؛ لأن بين السماوات والأرضين تفاوتًا، وكذلك بين الحياة والموت تفاوت، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ).
فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه.
وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب.