ثم الأصل في قوله - تعالى -: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أنه إنما يحسن عمله بحسن رغبته وسوء عمله بسوء رغبته ورهبته، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء، ويعتبر بهما، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله، ومن لم يتفكر فيهما، ولم يعتبر بهما، ساء عمله، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين، وكذلك الدنيا وما فيها أنشئت دلالة على طريق الآخرة، فالسمع يدل على السمع، والبصر على البصر، وآلامها تدل على آلام الآخرة، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فيه دليل على إضمار قوله: وأيكم أسوأ عملا
على مقابلة الأول، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، واللَّه أعلم.
فإن قال قائل: كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ)، والابتلاء في الشاهد؛ لاستظهار ما خفي، ولاستحضار ما غاب، واللَّه تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟!
فجوابه أن نقول: إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا، وهذا كما أضيف الاستدراج والمكر إلى اللَّه تعالى؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته، فيعتبر بإحسانك إليه، ثم تأخذه من وجه أمنه، ومن حيث لا يشعر به، هذا هو معنى المكر في الشاهد، وقد وجد الإحسان من اللَّه تعالى إلى أعدائه، ووجد منهم الاغترار بالنعم، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم.
والثاني: أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود إليه، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى؛ لنفي مضرة تصل إليه، واللَّه تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم