ثم إن الذي حملهم على عبادة ما عبدوا من دون اللَّه وجهان:
أحدهما: لما لم يروا أنفسهم تصلح لعبادة الإله العظيم أو تقدر على القيام بخدمته، فعبدوا هذه الأشياء رجاء أن تقربهم عبادة هَؤُلَاءِ إلى اللَّه زلفى، وأن هَؤُلَاءِ شفعاؤهم عنده، وذلك لما رأوا في ملوك الدنيا أن كل أحد لا يجد السبيل إلى خدمة ملوكها، أو لا يقدر على القيام بين يديه والخدمة له، فيخدم من اتصل بالملك ومن عظم قدره ومنزلته عند الملك؛ ليقربه ذلك المخدوم له إلى الملك إذا بدت له الحاجة أو الشفاعة، وعلى ذلك ما ذكر في قصة فرعون أنه كان اتخذ لقومه أصنامًا يعبدونها من دونه، لما لم يروا كل أحد منهم يصلح لخدمته، وهو ما أغرى قومه على موسى حيث قالوا: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، ونحو هذا أوجه.
والثاني: عبدوهم؛ لما رأوا آباءهم قد عبدوها، وتركوا على ذلك حتى ماتوا، فاستدلوا بتركهم على ذلك على أن اللَّه قد كان رضي بعبادتهم الأصنام وأمرهم بذلك لقولهم إذا فعلوا فاحشة: (قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)؛ ولذلك قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا)، وقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، استدلوا بتركه آباءهم على ما عبدوا من الأصنام على ذلك ولم يعاقبهم في الدنيا، وكانوا لا يؤمنون بالآخرة حتى يزجرهم إليها على أن الله قد رضي بذلك، وأنهم عن أمر منه فعلوا ذلك، فرد اللَّه ذلك عليهم فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
يحتمل قوله: (فِي مَا هُم فِيهِ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، في مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: إنه ساحر، ومنهم من قال: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه مفتر ونحوه، فيخبر أنه يحكم بينهم؛ ليبين لهم أن ما ذكروا ابتغوا فيه أهواءهم.
أو يحكم بينهم أن الأصنام التي عبدوها لا تشفع لهم، وأن عبادتهم لا تقربهم إلى الله زلفى، وقد بين لهم في الدنيا أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس بشاعر ولا ساحر ولا كذاب على ما قالوا؛ لما أنبأهم وأخبرهم بأخبار عرفوا أن الساحر والشاعر لا يعرف مثلها، نحو ما أخبرهم بنصر اللَّه إياه والظفر له عليهم -أعني: على الأعداء- فكان على ما أنبأهم بأنباء وأخبار عرفوا أنه صادق في ذلك ما لا يستفاد مثلها بالسحر وبالكهانة إلا بالوحي من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لكنهم عاندوا وكابروا؛ وكذلك بين لهم أيضًا ما عرفوا أن الأصنام التي عبدوها في الدنيا لا تملك لهم الشفاعة يوم القيامة، حيث ابتلاهم بأهوال وأفزاع بركوب البحار والتضييق عليهم حتى فزعوا إلى اللَّه في كشف ذلك عنهم ودفعه عنهم، لم يفزعوا إلى