كذلك - لا يحتمل أن يجعل لهم كل هذه النعم التي ذكرها وأنشأها لهم، ثم لا يمتحنهم بالشكر على ذلك ولا يأمرهم بأوامر ولا ينهاهم بمناهٍ؛ فدل ما أنشأ لهم من النعم وسخر لهم من الأشياء أنهم يبعثون ويرجعون إليه؛ حتى يجزون جميعًا: المحسن جزاء الإحسان والمسيء جزاء الإساءة؛ إذ في العقول التفرقة بين الولي والعدو، وبين المحسن والمسيء وبين الشاكر والكافر، ثم رأيناهم جميعًا في هذه الدنيا عاشوا على سواء في الضيق والسعة، لم نر ما يفصل بين الولي والعدو، وبين المحسن والمسيء، وبين الشاكر والكافر؛ فدل ما لم يكن من التفرقة ما ذكرنا في هذه الدنيا على أن هنالك دارًا أخرى دار الجزاء، هناك يفصل بين ما ذكرنا في الجزاء، واللَّه الموفق.
(لَا تُرْجَعُونَ): لا تبعثون.
وقيل: لا ترجعون إليه بالأعمال التي عملتموها، كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، وقوله: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ).
وقوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
أي: يتعالى اللَّه عوإن يكون خلق الخلق منه عبثا، أو يتعالى أن يكون خلق الخلق لا لحكمة. (الْمَلِكُ الْحَقُّ). قال الحسن: الحق: اسم من أسماء اللَّه، أو الملك الذي خلق الخلق للحكمة.
(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): تنزيه وتبرئة عن جميع ما قالوا فيه.
وقوله: (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) يشبه أن يكون على الأول: يتعالى الملك الحق ورب الملك الكريم عن أن يخلقهم لا للحكمة أو للعبث.
وقالت الباطنية: العرش: القيامة.
ونحن نقول: يشبه أن يكون العرش القيامة، على ما قالوا هم، إلا أنهم يقولون: هو قائم الزمان، وقلنا نحن: هي القيامة المعروفة وهي الساعة، رب القيامة وهي الملك الذي ذكرنا؛ كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ): خص ذلك اليوم بالملك له، وإن كان الملك له في الدارين جميعًا؛ لما لا يتنازع في ملكه يومئذ، وقد نوزع في الدنيا، فخلص له ملك ذلك اليوم وصفا له يومئذٍ.
وقال بعض أهل التأويل: العرش: السرير، أضافه إلى نفسه؛ لمنزلته عند اللَّه، والكريم: هو نعت ذلك السرير، أي: الحسن؛ كقولهم: (رجل كريم)، أي: حسن، وهكذا يوصف كل كريم بالحسن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نعت الرب، أي: ذو عفو وصفح، واللَّه أعلم.