قوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ) يحتمل وجوها:
أحدها: اجتباه للتوبة وهداه لها.
أو اجتباه ربه للرسالة وهداه لها.
أو اجتباه ربه للدِّين وهداه للتوحيد، وهذا جائز عندنا، للتوحيد والإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة؛ لأنه مأمور بترك الكفر ونفيه في كل وقت، فإذا كان مأمورًا بترك الكفر في كل وقت منهيا عنه كان مأمورًا بالإيمان والتوحيد، فإذا كان ما ذكرنا دل أن للإيمان والتوحيد حكم التجدد والحدوث في كل وقت، وإلا ظاهر قوله: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ): أنه لم يكن يجتبيه قبل ذلك فاجتباه من بعد، لكن الوجه ما ذكرنا من اجتبائه إياه للرسالة، واجتبائه للتوحيد والطاعات والخيرات ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
قال الحسن: قوله: (اهْبِطَا) أي: آدم والشيطان، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، يعني: ذرية آدم وذرية إبليس بعضهم لبعض عدو.
وقال فيما قال: (اهْبِطُوا)، عنى: آدم وحواء وإبليس، والهبوط: ليس هو الانحدار والتسفل من المكان العالي المرتفع، إنما هو النزول في المكان، فجائز أن يكون قوله: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)، أراد ذريتهما: ذرية آدم وذرية إبليس، وعلى ذلك يخرج قوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) يعني: الذرية، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) وقت اتباعه الهدى، أو لا يضل ولا يشقى إذا ختم بالهدى، أو لا يضل طريق الجنة ولا يشقى في النار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ... (124) هو الشدة والضيق، ثم اختلفوا فيه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) في الدنيا، وإن كانت في الظاهر واسعة عليه؛ لأنهم ينفقون ولا يرون لنفقتهم خلفا ولا عاقبة، ويريدون الدنيا أنها تدوم، فذلك يمنعهم عن التوسيع في الإنفاق؛ خوفًا لنفاد ذلك المال وبقاء أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم لا يرون لنفقتهم خلفا ولا عوضًا ولا عاقبة لها، فذلك الضنك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)؛ لأنهم يعصون بما أعطوا من المال وأنعموا فيه؛ لأن توسعهم يكون في معصية، فنفى عنهم الانتفاع به كما نفى عنهم السمع والبصر