والثاني: جعله مأمنًا بالخلقة من ذا الوجه، يجوز أن يقال: كيف سفك فيه الدماء وهتك فيه الحرم؛ وهو بالخلقة جعله مأمنًا؟
قيل: يجوز هذا بحق العقوبة؛ وإن كان بالخلقة آمنًا؛ ألا ترى أنه قال: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .) الآية، الطيبات بالخلقة حلال؛ لكنه حرم عليهم ذلك بالظلم الذي كان منهم؛ بحق العقوبة والانتقام، فعلى ذلك الحرم؛ جعله مأمنا بالخلقة، ثم قتل فيه عقوبة؛ لما كان منهم من المعاصي. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) الآية.
فَإِنْ قِيلَ: كيف دعا وطلب منه العصمة؛ وقد عصمه بالنبوة والرسالة؛ واختارهما له من ذلك كله؟
قال بعض أهل التأويل: إنما سأل عصمة ولده وذريته؛ لما علم أن ذريته قد يختلفون في دين اللَّه وتوحيده، وما ذكر نَفْسَهُ؛ لما المعروف أن من دعا لآخر بدأ بنفسه.
قالت المعتزلة: دعاء إبراهيم وطلبه العصمة؛ مما ذكر؛ يدل أنه قد يجوز أن يدعى بدعوات عبادة؛ وإن كان قد أعطاه ذلك، أو يعلم أنه مغفور.
قيل: دعاء إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام؛ يجوز أن يكون عصمتهم كانت مقرونة بما طلبوه منه، وسألوه وتضرعوا إليه؛ إذ معلوم أنهم لم يستفيدوا تلك العصمة؛ بإهمالهم أنفسهم، وتركهم إياها سُدى؛ بل إنما أوجب لهم ذلك بما أجهدوا أنفسهم في طاعة اللَّه.
ثم الآية على المعتزلة من وجهين:
أحدهما: أن إبراهيم طلب منه العصمة عن عبادة الأصنام، وهو علم أنه يعتصم إذا عصمه عن ذلك، واهتدى إذا هداه، وهم يقولون: اللَّه يعصم ولا يعتصم العبد، ويهدي ولا يهتدي العبد. ويقولون: إذا أعطى أحدًا ذلك، خرج ذلك من يده، ولا يملك إعطاء ذلك، فعلى قولهم تخرج دعوات الرسل على الاستهزاء أو على الكتمان؛ لأن من سأل من آخر شيئًا يعلم أنه ليس ذلك عنده؛ فهو هزء، أو سأل وهو يعلم أنه قد أعطاه ذلك؛ فهو كتمان، وكان خوف الأنبياء والرسل والكبراء من الخلق أشد وأكثر على دينهم، والزيغ عما هم عليه؛ لما خافوا أن يكونوا عند اللَّه على غير ما هو عند أنفسهم، كانوا أبدا